عن مذكرات الفتاة التي لم تعد رصينة!

في 24 من سبتمبر وأثناء نظري الطويل من خلال النافذة وبعد صراع حيرة بين كتابين اخترت أن أصافح “سيمون دو بوفوار” اعترف أني ترددتُ كثيراً قبل أن أعقد معها صداقة المؤلف والقارئ سمعتُ عن تمردها وبأنها من أوائل من رفعوا راية ” النسوية ” في العالم. وبما أن الظاهر يحكم على الداخل والقارئ يُحكم عليه من كُتبه جازفت وقررت أني وحدي من سيتخذ الموقف أمام سيمون وليس ما قاله المغردون في إكس أو ما تناقلته الأفواه.

في حديثها العميق عن طفولتها الطويلة ذكرتني سيمون بنفسي لقد كانت تدور في فلكها الخاص، في كيانها البعيد ووحدتها العصيّة عن الفهم، عن ابتعادها الغير مألوف وأسئلتها الكثيرة. ربما عبرت سيمون عن قلقها ومخاوفها بالصمت والابتعاد، وهذا ما يحسب لها بأنها كانت أكثر شجاعة من طفلة القرية التي كانت تركض خلف الجميع هرباً من الوحدة وخوفاً من النبذ.

موقفي الذي لا أنكره من هذه المذكرات بأني كنت فضولية جداً اتجاه ما يحدث في عقلها ومتأملة للفكرة التي تتدحرج طويلاً في رأسها وبأفكارها الخاصة حول الحب والزواج والعلم والأصدقاء.

لقد عرفت سيمون مزاياها منذ وقت مبكر وحينما كان اليأس يهجم عليها بكل ضراوة كانت تسمح لنفسها بالبكاء وتعدها في نفس الوقت بالنهوض لم تكن ترفع راية الاستسلام الا في الأوقات التي انهزمت فيها عاطفتها نحو جاك.

يحسب لها  أيضاً أن لها قلماً عذباً رقراقاً متسلسلاً مسترسلاً كنهر عذب، أفكر في زازا بعد ان انتهيت من الكتاب وآلمني أنها قالت عنها ” لقد اشتريت بموتها حريتي “. رافقني الكتاب لمدة شهر تقريباً ولم تكد تمر على صفحة الا وقد خططتها بقلمي أو توقفت قليلاً لأسمح للمعنى بأن يدور في فُلكي، وفي عبارتها التي قالتها ” لقد حكم علي بالوحدة، فلأدخل عالم البطولة” عرفت كيف ينتفع المرء من ظلامه ليغلب النور.

جعلت سيمون من الكتب حصناً منيعاً بينها وبين واقعها واختارت أن تحيا بين دفتي كتاب وتضعها حائلاً بينها وبين ألمها التواق للاستمرار وصراعاتها التي لا تكف وعواطفها التي لا تكاد تهدأ. ” كم هو كلي حضور الانسان، وكم هو جذري غيابه، ويبدو ان أي ممر مستحيل بينهما ” كم من غريب عبر بنا جهله الكثيرون وبقي في آخر حجرات القلب عصياً على النسيان، وكم من قريب غاب وغابت معه كل الأشياء التي اعتقدنا أنها كبيرة على التسرب من شقوق القلب والذاكرة وكان جاك بالنسبة اليها الحيرة والحب الوجود واللاوجود التأرجح والثبات.

كنت أعتقد أن مذكراتها ستطفح بالخروج عن التعقل وأن اختيارها لأسم “مذكرات فتاة رصينة/ملتزمة” هو نوع من التهكم ولكن ما وجدته فعلاً بأنها كانت رصينة ولم تجد أن الحرية هي أن يترك المرء لجسده حرية التصرف بالعقل والعاطفة أنما أولت العقل والعاطفة قرارها الأخير على الجسد وهذا ما أحترمه دائماً في أي إنسان وجد نفسه حراً  وعرف أن الإنسانية هي أن يحترم المرء نفسه أولاً. يبدو انها تبنت هذا الفكر السليم للفطرة في بداية حياتها قبل أن يجمح عقلها ويتحكم قلبها الفارغ من الإيمان في غريزتها، قبل أن تحيد الى الجانب المريع من الأفكار وتركض خلف أفكار سارتر العبثية ماحدث بعد تأثرت به أنها لم تعد تلك الرصينة أو الملتزمة للأسف.

لدي روايتها الأخرى “دماء الآخرين”  وأشعر بأنها تناديني من خلف الركام للقراءة ، تجاهلت النداء وتركت لكتبي المتراصة على الرف مجالاً للقفز بين ذراعي بعد أن ينام الجميع وينتصف الليل.

أمسك الآن بكتاب ” درب الكتابة” لرائد العيد، اختارني الكتاب وربما كان الاختيار لأن الأقدار سترسم لي طريقاً أجهله الآن، وسأعرفه في الوقت الذي يأخذني فيه هذا الدرب لمكان أحب أن أكون فيه.

كونوا بخيـر.

هيفاء

11-10- 2023

فكرة واحدة بشأن "عن مذكرات الفتاة التي لم تعد رصينة!"

  1. الوجود الحقيقي في حياتها في إطار الوجود المتلذذ، وغالبية نضالها من أجل تحقيق اللذة سواء كانت جسدية أو معنوية..
    تقول سيمون بعد أن عادت إلى مونبارناس أنها تعبت من الدراسة -دراسة الفلسفة- وتردد “أهذه هي الحياة؟ أتراني أنا التي كنت أعيش على هذا النحو؟ لقد كانت هناك دموع وحميات، وكانت هناك المغامرة والشعر والحب: حياة رقيقة، ولم أكن أريد أن أسقط” (مذكرات فتاة رصينة، ص 187)
    حاولت أم سيمون أن تجعل منها فتاة رصينة في طفولتها، ولكن سيمون كانت تحاول الخروج عن التقاليد، إلى أن قالت أن أمها تراها قمامة هذا المنزل.
    ثم بعد ذلك حاولت سيمون -بعد أن كبرت- بفتراتٍ متقطعة أن تكون شيئًا رصينًا مثل كتابتها للأبحاث (ص 214) ولكنها تعود لتقول “أريد أن ألمس الأرض، إن في العام ربيعًا واحدًا، وإن في الحياة شبابًا واحدًا.” وتعود لتلبية نداء غريزتها المتشوقة للخروج عن المألوف.

    مراجعة ممتعة، شكرًا هيفاء.

    إعجاب

أضف تعليق