لروحك الحاضرة رغم الغياب

من أجلها.. ولكي تبقى في الذاكرة طويلاً ولا تأكلها آفة النسيان أكتب.. أكتب لتظل خالدة وراسخة في الذاكرة كجبال رضوى، ومتدفقة كينابيع ينبع أكتب لتظل مستيقظة في قلوبنا.. رغم نومها القديم..

في العام الذي كان الشتاء يحل به في آخر العام وفي الوقت الذي كانت به الأمطار تعالج الأراضي القاحلة بالماء.. في الأيام الضبابية التي تفصلنا عن أيام الاختبارات النهائية وفي العطلة الأخيرة عطلة عيد الأضحى التي كنا نقضيها منذ ان كنا صغاراً في مزرعة جدي. كنا نجتمع سنوياً تحت سقف واحد.. تاركين خلفنا حياة المدن والرفاهية قاصدين فيها سكينة الأرياف، في الوقت الذي لم تكن السلوى فيه سوى متعة التحلق حول دلة القهوة وصناعة النكات والطهي بكميات كبيرة لا تكاد تسد أفواه الأفواج الهائلة من البشر. نجيء الى منزل المزرعة في كل إجازة منتصف العام الدراسي.  6 أخوات و3 إخوة ونحن أبنائهم الذين يصل عددنا الى الثلاثين حفيدًا. نزدحم بلا ضجر ونتراص في الحجرات الأربع وننام كأسماك السردين بعد السهر الطويل. ننقسم في غرفتين داخل بيت المزرعة ومثلها في الخارج وفي الخيمة التي نصبت من أجل ينام فيها أزواج الخالات وأولادهم اليافعين.

كانت أمي آسيا تنتظر هذا الوقت من كل عام تفرد يديها وأحضانها لاستقبالنا بحفاوة. مزهوة بنسلها السليم وقلوب بناتها النقيّة فرحة بسلالتها الطيبة البعيدة عن الخبث والغيرة والأحقاد..  لم تكن مسنة في ذك الوقت ولا أدري لم كانت تبدو كذلك، بوجهها الدائري الأبيض وعيناها النقيتين، بنظارتها العريضة الحواف.. بأنفها الجميل الدقيق. بابتسامتها الجميلة الناقصة الأسنان بطرحتها البيضاء التي تلف بها وجهها القمري. بمشيتها المتهادية وحنانها المتدفق.. بهدوئها الكثيف. بطيبة قلبها المُنيرة. كانت أمي آسيا حاضرة في المكان متسيّدة في القلوب ولازالت.

قبل يومها الأخير كنت أتأمل بلا وعي كفيها الناعمتين وساعتها الذهبية.. جسمها الممتلئ وقدميها الممدودتين.. بجواربها السوداء وردائها الأزرق.. حقيبتها التي لا تنفذ من العلك والكحل ودهن العود والريالات الجديدة. أتذكر عطائها السيّال وعاطفتها اللينة.. لون الحناء في شعرها في أثره الزاحف من أصابع يدها، بحزنها العميق المكتوم، بصفاء نيتها ولمعان سريرتها بحب عطائها للفقراء والعمال والأيتام. بحضورها اللافت وباصطفاف أطفال الشوارع على الحائط حين مرورها لأجل ما تهبهم من فم حقيبتها المفتوح. كانت أمي آسيا سيدة النساء وقاهرة الصعاب ودائمة الابتسامة.

كنت أحسب أني نسيتها، ولكني في كل نهاية عام يلتصق وجهها في عيني كعدسة لاصقة، أتتبع نبض قلبي المشتاق وأتمنى من الأعماق أنها الآن هنا.. أناولها أولادي واحداً تلو الآخر.. ليحظوا ببركة حضنها.. للمسة رحمة على رؤوسهم الصغيرة منها. واليوم قلت بنفسي لم تكن لكِ حفيدة كاتبة عبثاً.. سنوات وسنوات صقلت قلمي حتى يكون مناسباً لرسم ذكراكِ على جدارية خلود الكلمات.

لقد مرّ 17 عاماً وجرحك مفتوح في صدورنا كقبر مكشوف، كلما اندمل بالنسيان أتى غراب الحزن ونقب سطحه اللين، كلما نسينا أنكِ لم تعودي هنا.. تتسرب ذكراك من خلف شقوق الزمن وتنشر أوراق ذكرياتنا معاً. تعيد كتابة أجندة الماضي نستبدل الأفعال المضارعة بضمائر الغياب، نبدل الجمع بالمفرد ونسرد فواجع ليلتكِ الأخيرة. نغترف من بئر الشوق ماء الدمع الذي سكبناه كثيراً ونرفع للسماء كفوفنا المرتجفة بالدعاء بأن يهبنا الله رؤيتك بالمنام، لنضمك كثيراً بقدر السنوات التي كبرنا بها وتجاوزت قاماتنا جسدك القصير نضمك بقوة نحن والأيادي الصغيرة التي أنجبناها بعدما غبتِ

حينما كنت طفلة، كنت أقضي عطلة الصيف في بيتك، أهرب من تأخر القرية التي أسكنها إلى تقدم المدينة التي بها تقيمين، في حي المنتزهات جنوب جدة في المنزل ذو الباب الأزرق المنصوب على التلة بنخلته التي جلبتيها من أرض الينابيع وغرستيها في أرض الملح، النخلة التي كانت ترتوي من ماء تكييف طمأنينة غرفة نومك فنشرت فسائلها حولها من بركات يديكِ.

كان المنزل شعبياً بطلاء أبيض وعدد غرف قليل وسطح لم يكتمل نمو بناءه كنا نلعب بحذر حول الأسياخ الحديدة التي تنبت من أرضيته كالسنابل والتي لا أعرف لم تخترق رأس أحدنا أو تتسبب بفقأ عينه.

من غرائب ذلك المنزل الذي دكّ قبل وقت قليل بجرافات الإزالة، دورة مياه صغيرة بنيت تحت بيت الدرج المؤدي للسطح، ندخله ونحن أطفال منكسي الرؤوس كي لا يرتطم السقف به. حمام مريب يوصد بباب خشبي رقيق  وزرفال من حديد. وعلى الرغم من كونه حماماً منزلياً بحتاَ الى أن مرتاديه اختاروا أن يكتبوا ذكريات عبورهم به، ربما لأنه مستفزاً للكتابة لاحتكاك بابه بركبهم أثناء الجلوس على المرحاض.

كان الحمام الغريب على يسار المدخل وتواجهك في الأمام مغسلة بلون سماوي منتصبة بشموخ تحمل المرآة التي تسائلت عنها مراراَ. لم لم يفكر جدي في غرس المصابيح في زهورها الزجاجية الجانبية؟ ربما لهذا السبب كانت كسيرة وحزينة ومليئة بمخلفات الذباب والغبار.

على يسار العابر للمدخل يأخذك درج إلى السماء حيث السطح. درج اسمنتي لا سقف له يوصلك بالطقس المشمس صيفاً الممطور شتاءً المشبع بالرطوبة والمخنوق بالغبار طوال العام. كنت أجلس على عتباته الأولى لأستمع الى مذياع جدي وقرقرة شيشته بانتظار نزوله للأسفل. أتجنب الصعود كي لا أثقب هدوء عزلته الملكية المختارةـ. بجانب الدرج مجلس وضع للرجال مستطيل الشكل ترابي اللون والرائحة يتطابق بشكل عجيب نقش سجاداته بنقش المراتب ومساند اليد، في الوجه نافذة تسدل على وجهها ستاراً بلون صبور يحتمل لطخات أيادي الأطفال وعبثهم المستمر.

يعزل بين هذا القسم والصالة الداخلية باب من الألمنيوم المطعم بالزجاج الشفاف الملون. لنا صور كثيرة أمام ذاك الباب ربما لبقائه سليماً أعواماً طويلة قبل أن تشتد يد أحد الأطفال وتقذفه بلعبة ليكسر زجاجه ويوصم بالنقص والخطر.

حينما تفتح الباب والى اليسار توجد غرفة خالتي والى جوارها غرفة مجلس النساء ثم ممر صغير ينتهي بباب يؤدي الى الشارع الخلفي. حينما كنت أصل الى البيت كنت أركض لأضم أمي آسيا. كنا نصل غالباً بعد صلاة العصر وأجدها تستضيف نساء بملامح غريبة، يفترشون الأرض وبجانبهم بقش قماشية لبضائعهن. نسوة باكستانيات بملابس لها ألوان كثيرة لا يرتدن العباءات، في أياديهن أساور كثيرة ملونة وفي وجوههن سحنة التعب والغربة. أنوفهن مثقوبة وتتدلى منها أقراط كبيرة الحجم.. كنت أخجل من الاقتراب منهن. رائحتهن تعبق في المكان وتصلني. كانت عيني تلاحق انحسار الشال الأصفر عن رؤوسهن كاشفاً عن شعورهن الحمراء وآذانهن الممتلئة بالثقوب والأقراط فأتلمس بغرابة أذني الفقيرة ذات القرط الواحد.

كانت أمي آسيا تطعمهم بأوان بلاستيكية ملونة وأكواب مثلها تأمرنا بأن نأخذها منهن لنملئها بالماء، كنت أتساءل عن سر وجودهن المتقطع فعرفت لاحقاً أنه حينما يأتين البائعات ويعرضن لها البضائع تخجل من رفضها فتشتري ثمن جوعهم بالمتبقي من الغداء لديها، ولا أظن أن أحداً في ذلك الزمن كان يفكر للحظة قبل أن يوصد الأبواب في وجوههن المتعرقه من حرارة الشمس.

في الصالة المستطيلة المؤثثة ببساطة توجد خزانة بلون أبيض تحمل التلفاز الذي مل عبثنا واصرارنا على البحث عن قنوات مصر، والى جانبه كان الممر المفضي الى المطبخ والحمام الآخر والغرف التي كنت أسميها كنز الأسرار  لأن بها خزانة ممتلئة بالكتب والصور ودفاتر المذكرات والفواتير.

كان المطبخ بسيطاً بخزائن بيضاء بصف واحد وثلاجة ترتكز للجدار المواجه، وأرضية محطمة كنا نحب افتراشها بعد منصف الليل حينما ينام الكبار فنتسلل كي نملئ الصحون بسيريلاك الأطفال ونأكله سراً وتغمرنا السعادة التي ننساها صباحاً حينما نعاقب من أم الطفل الجائع.

في هذا المنزل قضيت أياماً جميلة عاصرت وجود الهاتف الأرضي لأول مرة وأشرطة الفيديو واكتشفت مواهبي في الرسم وبداياتي الأولى في قراءة مجلة ماجد وطهي الإندومي بنكهة الصابون و قلي البيض واكتشاف روايات عبير المخبأة، مارست السهر الطويل على لعبة الأونو وقراءة المجلات بالاستماع الى إذاعة الاف الام وطلبات الأغاني، بالسهرات النسائية مع خالاتي وصديقاتهن وتبادل مجلات  أزياء” البوردا” بينهن عاصرت حضور الجهاز الكمبيوتر المكتبي الأول ومشاهدة فيلم التيتانك عن طريق أشرطة  السي دي .

بدأ نضوجي الحضاري من هذا المنزل الشعبي لا أتذكر اني يوماً ما شعرت بالملل في هذا المنزل المليء بالعجائب والأحاديث. احد العجائب هو وجود فوهة خزان الماء في وسط الصالة، حينما تأتي سيارة الصهريج لتزودنا بالماء يندس الخرطوم من تحت البساط إلى فم الخزان وعلى اثر اندفاع الماء الى جوفه يخرج الهواء ويصنع قبة هائلة تحت البساط نقفز عليها في منظر سريالي مبهج. كنت أشعر بأني في احدى حلقات مغامرات السندباد وفي الخزان تنام قرية مغمورة تسكنها جنيّات جميلات وحوريات بشعور زرقاء.

كانت أمي آسيا تنهانا عن اللعب وهي تضحك وبجانب قدميها الممدودتين تضع حقيبتها المدرسية. في تلك الأعوام أتيح التعليم لكبيرات السن، وفتحت مدارس محو الأمية أبوابها لهن وكانت من أوائل من وقفن على شبابيك الخياطين لاستلام المريول الأزرق والمبادرة الأولى لشراء حقيبة جلدية للكتب وأقلام من مكتبة الحي، كانت مندفعة بقوة لفك رموز القراءة لهدف سامِ وعظيم لتقرأ من المصحف مباشرة بلا أي تدخل بشري حقيقي أو صوت شيخ يبثه جهاز التسجيل.

كانت تفرح لقدومنا لأننا نساعدها في كتابة الواجبات ونقرأ معها ما يصعب عليها من قراءة للكلمات، كانت تضع نظارتها وتصنع تعبيراً مضحكاً في وجهها وهي تحاول تهجئة الحروف، ننفجر ضحكاً ولا تغضب، نسخر بجهل وتبتسم، نمل من التعليم ونهرب فلا تيأس، لم تكن ذات أمراض مزمنة ولكن جهازها الدموي انهار وأصيبت بالضغط حينما لم تنجح في الأملاء، وحينما نجحت أخيراً لم يغادرها فاتخذت علب الادوية مكانها في حقيبتها السوداء الصغيرة.

 عاشت أمي آسيا في هذا البيت أسعد أيام منتصف عمرها فقد قضت وقتها وهي تنسج روابط المحبة بينها وبين جاراتها وبين الأقارب اللذين بالجوار بحلقة التحفيظ الذي تذهب اليه عصراً وبالخياط الذي يخيط لها ثيابها فتضاعف له الثمن لأنها تعرف أنه لن يأخذ من ثمنه سوى القليل. لم تعش لتأخذ انما لتعطي. في تلك الأثناء اشترى ابنها الأكبر أرضاً في الشمال، ولأنها أرض الأثرياء في ذلك الوقت نصب لها فيلا وشطرها لنصفين وانتقلت أمي آسية من البساطة للتكلف ومن الجارات والرفقة إلى الوحدة من الباب الموارب الى الباب الموصد الذي قد يمر أسبوعاً ولا يطرقه أحد، من المنزل المنبسط والبساط المنتفخ والحمام المريب الى 4 دورات مياه وطاولة طعام ودرج حلزوني. شكرت ابنها على المنزل الجديد ولكنها تركت نصف قلبها هناك وهبته للنخلة والمنزل الشعبي ذو الباب الأزرق فوق التل.

قبل رحيل العام بيوم واحد 29 -12-1428 هـ أفلتت منا يدها إلى سراديب الغياب، استقبلنا عامنا الجديد بجرح عميق، وحزن مُر.

أتذكر الآن.. لأني حين الحادثة كنت كبيرة في العُمر صغيرة على الحُزن، لم أستوعب ثقله ولا سواده اللي طلا وجوهنا جميعاً وحتى هذه اللحظة لم تتحسن صورة الحياة الناعمة في أعيننا، في نهاية عطلة الحج وحينما غادرنا جميعاً المزرعة استعادت الهدوء وفي مكالمتها الأخيرة قالت انها ستصوم لأنها تود أن تطوي صفحة نهاية العام على طاعة الله، لملمت عباءتها، وأقفلت حقيبتها، ووضعت في حضنها علبة من التمر، جلست في المقعد الأمامي وفي الخلفي كانت خادمتها وانطلق جدي نحو الطريق.. وبعد 5 دقائق من الانطلاق غشيت عيناه بضوء خاطف أبيض فانحرف المقود وتدحرجت السيارة.. تناثر الرطب على الرصيف وفارقت أمي الحياة ملتفة بعباءتها. ودعت الحياة في اليوم الأخير من العام الجديد واستقبلناه نحن وخادمتها وجدي بالدموع ورائحة الحزن وغصّة الوداع..

مضى الآن على وداعها 17 عاماً.. ولا زلنا نزيح لها في مجالسنا مقعداً ونجعل لها من صدقاتنا نصيباً ومن دعواتنا حقاً، كانت تقول أننا بذور صالحة وحينما كبرنا أدركنا نبوءتها في ذريتها. لم يلتوي أحداً في طريقه الا وقد استقام ولم يسقط منا أحد الا وقد وقف على قدميه. لا زلنا عصبتها في غيابها نتقاسم رغيف الهموم ونصنع حلوى الضحكات، لازالت كما تعرفنا تنبع من قلوبنا المحبة ونحيط بعضنا بسياج الوفاء.

ذهبتِ يا أمي ونحن ورثتك من النقاء والكرم قفل بابك ولكن أبواب أبنائك لازال مفتوحاً في وجوه الغرباء والمساكين، نمتِ ولازالت أعين كثيرة مستيقظة من بعدك ترى الحياة بحياد بلا ألم دائم ولا فرح باقِ.. لديك الآن من أحفاد الأحفاد 16 حفيداً نجتهد بأن نزرع في كفوفهم الصغيرة سنابلك وننثر في قلوبهم الغضّة رياحينك. ونبقي ذكرك حاضراً في كل مجلسِ وروحك شاهدة في كل عيد. رحل كل شيء ولكنِ بقيتِ في الأشياء التي لا تموت في الذكريات التي لم تبهت. في القلوب التي لازالت تحبك وتدعو لكِ في السجود.

حفيدتك

هيفاء

أضف تعليق