حسناً سأجيب على هذا السؤال ..
ما أكبر الفرق بين ما مضى و ما هو آتِ ما بين صباح اليوم والبارحة ، لم يكن الموقف الهجومي الشائك الذي واجهته سهلاً ولكن يبدو أن جلدي أصبح أكثر سماكة وقلبي أكثر صلابة مما توقعت.
للمرة الأولى أعترف بشجاعتي أمام نفسي وذلك لأني اخترت التجاوز بكل إصرار. فحينما تلطخت ثيابي بالوحل بفعل أيدي عابثة في صباح مرتبك وأنا في طريقي نحو اجتماع هام، تنفستُ عميقاً ثم توقفت جانباً وخلعتها أمام أقرب سلة نفايات بلا أسف وبكل هدوء وتماسك أخرجت من حقيبتي قميص أبيض ناصح وأعدت رسم شفاهي بلونِ وردي ناعم وابتسمت بتألق، ومشيتُ سليمة تماماً بدون ايه شوائب لغضب أو آثار اهتزاز.
تغيرت الأشياء عندما انتميت لصورتي الحقيقية بخدوشها وأطرافها المتآكلة وورق طباعتها الأصيل اللامع، بت أشعر بشكل ما معنى ذهاب الليل ليأتي خلفه النهار وبأن كل نهار خلفه ليل ويوم وعام. ليس بالشكل الذي نعرفه كحدث تلقائي كوني بل لأن كل الأشياء ليس لها شكل ثابت. وبدوت أكثر ارتياحاً لأني وبكامل ارادتي فتحت جميع قنواتي لعبور الخير وتصريف الشر بدون أن أكتنز منها ايه أجنحة بيضاء أو قرون حمراء وشوكة.
لم أكن أعرف أثر القسوة عندما يخبئ الإنسان جراحه وبت أكثر حرصاَ في انتقائي لمن أريهم مواطن الكدمات في جسدي، وأسمح لأيديهم العطوفة بالتربيت على ظهري المقصوف، وبأن أميل بكل اطمئنان للاتكاء عليهم بطفولة حينما يغمرني التعب، بلا أي خوف من الندم أو شك في وجودهم الحقيقي القابل للاختفاء.
قلبي مأسور بالحنان..بالرقة واللطف والجمال، وأجد أني أجيد تتبع روائحهم الدافئة بين الأشياء والكلمات والمواقف..ألتمس اللين بين الأشواك، وأحاول بأن أتحسس بأطراف أناملي قدرتها على شفاء التورّم، وأمتن كثيراً لغشائها البارد حينما كمد بلطفِ قلبي المحترق.
أن أمتن لكل خير في هذا العالم هو ما سأتذكره وأنشره وأحض عليه من تلاصق أكتافهم أكتافي في الصعاب، بمن تنام يدي في يدهم دون أن تخشى الأذى وبدون أن يجفل جسدي برعب حينما أسمع صرخة خاطفة تتبعها ضحكة مدوية سعيدة وكم أحب أن أنتبه لهذا الضجيج المرح بين أكواخ الصمت المظلمة.
أشعر بأن داخلي بات مصقولاً كالفولاذ أملساً كالكروم لم أعد جداراً خشناً تلتصق به بقايا كلمات الآخرين فحينما أرشق بكلمات فاسدة واتهامات لزجة تسيل سريعاً تحت أقدامي مخلفة ورائها أثر بسيط أستطيع مسحة بأغنية لطيفة وكوب قهوة.
أفكر كثيراً في طي عقدي مع الماضي، أعتقه في صندوق محكم أضعه فوق خزانتي، يعجبني أن أراه أمامي وأفتخر بوجوده دائماً لأن مسامير أخشابه مأخوذة منّي من عظمي ونسيج أوراقه مغمور بعرقي وكل الابتسامات الطافية على سطحه هي طفولتي وشبابي وخطواتي الأولى على هذا الطريق. ولكني لم أعد مهتمة عن نبش موقف حاد ولا أريد أن أبحث فيه عن صورة تأخذني للضباب العدميّ البعيد.
ستشرق شمس يوماً ما بين الغيوم، شمس ليست كالشمس التي تشرق الآن شمس أراها تشرق من أجلي، من أجل أن تطرح كل الظلال جانباً وتطعن في سطوة الظلام على النور، شمس جديدة واضحة ثابتة تعرفُ الطريق وتثق بأن كل النهايات وان لم تكن متوقعة خير وإن لم تكن كذلك.
يوم الاثنين
25-5-1444 / 19-12-2022