منازل تسكننا

مساء الخير.. بتوقيت كتابتي الحاليّ لهذه التدوينة، وبعد انقطاع طويل عن الكتابة في أمور شخصيّة قررت أن أثبت هذا اليوم على جدار الذاكرة بمسامير الكلمات.

لقد اتممتُ يوم الخميس الماضي أسبوعاً من السكن بمنزلي الجديد. وبمنتهى الغرابة شعرت بأني أسكنه منذ وقت طويل جداً، ربما لأني عشتُ فيه خيالاً قبل أن يكون واقعاً. لم أعتد بعد على السِعة، وعلى الفضاء الذي يسمح لأطفالي بالركض بدون أن تصطدم أجسادهم بالجدران أو حواف الأثاث. ولا زلت أمكث لوقت طويل بالمطبخ وأنتقل من مكان لآخر بحثاً عن زاوية أألفها لتقطيع الطماطم بعد أن كانت كل الخيارات ملغية في السابق، فقد كنت أدير جسدي فقط نحو اليمين واليسار لأخذ البهار من الثلاجة لأسكبه في إناء الغداء على الموقد.

في منزلي القديم كان الاتساع في مطبخي لا يكفي لـ 3 أشخاص وقوفاً، ورغم ذلك كان يصدح بالكثير من الحكايات فوق مجلي الغسيل. وكان يطهى على موقده الصغير الطعام الطيب، وفي أوقات اكتئابي الصعبة كنت أنهار على أرضيته الضيقّة ضامة قدماي إليّ لأنه المكان الوحيد الذي أستطيع البكاء فيه ولا يقتحم خلوتي أحد.

في اليوم الثالث من سكني ومن مطبخي الجديد وبالمئونة المتبقيّة من شقتي القديمة وجدت طحيناً وسكراً وزيتاً. وبما أن البرتقال هو الصنف الأول من الفواكه المشتراة قررت أن أعد به كعكة شهيّة مع الزبيب. فكرت بأن جدرانه اللامعة تحتاج إلى دفئ رائحة الخبز النابعة من الفرن. وربما لكي أتأكد بأن مهارتي في إعداد الكعك لم تهتزّ وتتأثر بفعل الانتقال من ضجيج وسط جدّة الى أحد أطراف أحيائها الجديدة. الحيّ هادئ تماماً وبه الخدمات الأساسية التي لم أتضجر منها بحكم نشأتي في القرية، في كل يوم افتح فيه نافذة غرفتي والتي تسمح لجسدي كله بأن يواجه الشمس والسماء أنظر للأفق وللتلة الجبلية البعيدة وللطريق الذي يأخذ سيارات المسافرين إلى المدينة المنورة، أتنفس بعمق ويقارن عقلي بين صورة اطلالة شقتي القديمة ومنزلي الحاليّ ، أتذكر النافذة الصغيرة و الطريق الفرعي المزدحم وصخب طلاب ثانوية المدرسة المجاورة والأشجار الباسقة التي تذبح سنوياً على قارعة الطريق و لا تكف عن النمو ثانية، عن أصوات السيارات المتواصلة وفزعي على أطفالي حينما يسبقوني نزولاً إلى الشارع.

في مكالمة هاتفية مع أختي ونحن نقيس مدى البعد بيننا عن طريق “قوقل ماب ” قلت لها بأني أشعر بأني في كوكب زحل وقد ابتعدت عن الأرض التي يسكنها الجميع وبت وحيدة في المنفى، فعلاً هذا ما أشعر به حتى هذه اللحظة، ولكن ما يرطب يباس قلبي في البعد المكاني بيني وبين منازل عائلتي نبتتي “صُبح” التي حملتها معي شخصياً حين الانتقال ووضعتها بجواري في المقعد الأمامي وقدت الطريق وانا أسترق النظر لها بحنوّ لتستقر على مكتبي الذي نصبته حال وصولي لعمل مستعجل ولتطرح فوقه بعض أغصانها وتملي علي فكرة تجذيرها في أونِ مائية لتتكاثر، ولأملئ أركان البيت بها في المستقبل القريب.

لايزال الفراغ يملئ الأرضيات والجدران، لم أقتني أثاث بعد وقبل أن أفعل ذلك خططتُ للغرفة التي ستكون بها عزلتي، مكتبتي، والأركان التي سأضع فيها أطفال “صبح” والفناء الخلفي الذي سيصبح وفق تخطيطي حديقة منزلية صغيرة أزرع فيها الثمار وأملئ منها روحي بالخُضرة. لازلت أتلمس آثار نبوءتي بشأن العمل المنزلي، وشراء مكتب من أيكيا، وهجر فكرة البحث عن عمل خارج المنزل في الوقت الحاليّ، ولا أعرف ان كانت ستتغير هذه الفكرة في المستقبل.

أن أنعم بالسِعة هو نعيم وأن أمارس ما أحب بلا قيود رحمة وبركة من الله وأن أمتن كل صباح للعوض الجميل وراحة البال هو ما سأجعل له مكاناً في قلبي ليربوا ويكبر كل يوم ويتكثف كالغيم في صدري

تتبعت في ذاكرتي عن عدد البيوت التي سكنتها ووجدت أنها لا تتجاوز الخمس، فحينما كنت طفلة كبرت في منزل شعبي يطل على حوش جدتي، ولأن أمي كانت تخشى خروجنا من الباب الخلفي للمنزل جعلت من النافذة ممراً نحو بيت الجدة العامر بالأصوات. كانت تفتح درفتي النافذة وتساعدني على التدلي وحين تلامس قدمي الأرض أفر راكضة نحو الحريّة ،وبعد سنوات قصيرة بنى أبي منزلاً في نفس الحوش، منزل شعبي أنيق، يحوي 7 غرف وسطح وغرفة للخادمة، لا يزال حتى هذه اللحظة بيتنا الذي يتراكض فيه الأحفاد ونتزاحم به نحن الأخوة  ونحتل غرف الضيوف للنوم، رغم بناء غرفتين إضافية في السطح الى ان معالمه لم تتغير كثيراً ولايزال في حالة ممتازة ولاتزال ابوابه مواربة ودائمة الاحتمال لدخول ضيف، أحب في بيتنا رغم قدم تصميمه جاهزيته المستمرة لاستقبال الضيوف ولمّة الأقارب، لايزال ابي حفظه الله برغم تقلص العائلة الى 4 أفراد يشتري مئونته بنفس الكم الذي كان يشتريه ونحن جميعنا به، ولازالت امي تطبخ باستفاضة لاحتمال مرور عابر تطعمه. قبل فترة قصيرة تمنت أمي بيتاً كبيراً يسرح فيه أحفادها بلا قيود وأجنحة يسكن بها ابناءها المغتربين حين يجيئون في العطلات، ولأنه من الصعب حدوث هذا الأمر حالياً قلت لها باقتناع تام بأن هناك من يملك القصور والمنازل ولم يطرق بابه زائر ولم يلم أحباباً على سفرة عامرة كما يفعل بيتنا المتواضع هذا، كنت أقول لها بأن البيوت بساكنيها وبضيوفها المستمرين وبالراحة التي تلازم أهله وبالعافية التي تسكن أجساد قاطنيه، كنت أدافع باستماتة لرفع مكانة هذا المنزل وأظن أني فعلت الصواب.

في بيتي السابق المتواضع لم أكف عن استقبال أي شخص ولم أخجل من آثار ألوان أطفالي على السجادة، لقد استضفت مراراً أخواتي وصديقاتي وأطفالهن، لم يكن الأمر سهلاً في ظل زخم التصوير والاستعراض بالأواني والأثاث ولكني حرصت على قبض اللحظات الجميلة ولم أرغب بأن يحول بيني وبينها أريكة باهظة الثمن وأكواب أنيقة، ولا زلت أتمسك بهذه القناعة حتى الآن. كما أعتقد بـأن المنازل أعمق من مكان يسكنه صاحبه ويعيش به.

حالياً أبحث عن كتاب مناسب ليضللني، أكملت شهراً ونصف وأنا بعيدة عن القراءة أفكر في “فن السفر لآلان بوتون” و “أزمة منتصف العمر الرائعة” وفي يدي كتاب” المدّ الهائل” المقتبس منه “عدنان ولينا” ولم أقرأ منه سوى أولى الصفحات.

أود أن أقرأ في كتب تتعلق بالمنازل وتعدد المساكن، شاركوني اقتراحاتكم يا أصدقاء 😊

6 رأي حول “منازل تسكننا”

  1. منزل مبارك يارب
    تدوينة جميلة ومؤثرة
    وطالما تفكرين في قراءة الان دون بوتون، فلديه كتاب عن العمارة والبيوت بعنوان عمارة السعادة، وكذلك أقترح كتاب “أنت منزلي: سفرٌ في ذاكرة البيوت العربية” لسارة العسكر.

    Liked by 1 person

أضف تعليق