أرق على أرق ومثلي يأرق*

في البداية :

أحب أن أشكر كل من انضم حديثاً لمدونة طائرة ورقية في الأيام الماضية شهدت ارتفاعاً في معدل المشاهدات و الإعجابات والإضافة رغم اني توقفت عن مشاركة الرابط منذ فترة طويلة إلى أني ممتنة لكل من مررها إلى صديق أو وقع عليها صدفة، فضلاً اكتبوا لي في التعليقات كيف وصلتم اليّ؟ لأشكر من كان السبب في وجودكم حولي💞

بقي أقل من 10 أيام ويغادرنا شهر شوال. في الأعوام الماضية كان هذا الشهر بمثابة كابوس لي وشبح مخيف يطل علي بظلاله من خلف زينة العيد. حينما كنت أعيش بلا أيدي صغيرة تتشبث بي وأفواه تنتظر مني إطعامها كان الأرق والسهر و” النوم المشقلب” أمر طبيعي ومتوقع رغم اني في قرارة نفسي لا أحب أن أعكس آية النهار والليل. ولكنها على أيه حال لم تكن معضلة.. أصبحت معضلة حينما أنجبت وأصبح كارثة حينما كبر الأطفال وتطور الأمر حتى أصبح شهر شوال قنبلة موقوتة تنفجر في وجهي بعد بهجة العيد.

لا أعتقد أن هناك أصعب من ساعتي البيولوجية في مجاراة مواقيت أيام رمضان وشوال، أعتقد أنه في رمضان يكون الأمر سهلاً فتأخير النوم ليس مستحيلاً ولكن المستحيل بعينه هي أن تنام عيني في موعد ليس لها وهي التي لا تعترف بالغفوة ولا تنام فجأة على الأريكة ولا قبل المناسبات. نومي قليل نوعاً ما فهو يتراوح ما بين 5-7 ساعات تكفيني عادة ونادراً ما تخرج عن المألوف. الا إذا حل بي تعب أو كان هرباً من واقع.

في البداية لم أفهم الأرق فحاربته حتى أنشب أظافره في عنقي، حاولت تعديل موعد النوم بالحلول المعتادة ” واصلي يا هيفا أكثر من 24 ساعة وبعدها اسحبيها نومه ” ولكن هيهات! ينام الجميع وعيني مثبتة على الساعة ولا ينتهي الأمر الى حين أصل لموعد نومي القديم ويصبح عكس كل من في البيت وتعم الفوضى ويجفل قلبي مع كل صوت عالِ أو نداء.

وقد يستمر الأرق بمحاربتي حتى أستسلم له صاغرة فيصبح مجموع نومي أقل من 3 ساعات وحينما أنام أشعر بأني أطفو وصوت شخص ما يقرأ كتاباً بلغة غير مفهومة في عقلي وتزورني أطياف الذكريات الحزينة والأفكار المريبة وأدخل في موجة عاتية من الاكتئاب والصداع والقلق ويستمر الحال لأكثر من شهر.

بخصوص الأدوية لم تفلح معي أدوية الهيستامين وأدخلتني في شعور كئيب ومرهق أما البنادول لايت فقد رفضه دمي وأصبحت بسببه الرعشة لا تفارق يدي ، وحينما قرأت عن عشبة الناردين ركضت لشرائها ظناً مني أنها المخرج ولكنها كانت بطيئة المفعول والشيء  الوحيد الجيد أنها أشعرتني بالاسترخاء حتى وانا بعيدة عن الفراش.

 قبل عامين وبعد أن قررت أن أحجز موعداً في مركز علاج اضطرابات النوم وأخضع للأدوية وقبل أن أهم بالاتصال للحجز قال لي أبي ” أنتِ بس فيكِ قلق حاولي تهدئين” ومن بعدها حاولت تعلم ذلك الهدوء حينما يحاربني الأرق ولا أعلم كيف وصل بي الحال إلى مصادقته وكان هذا أجمل قرار اتخذته!

قررت في البداية ان لا أذهب الى الفراش الا حينما يأخذني إليه النوم.. ونجحت بإقناع نفسي في تقبل هذه الفكرة وبعدها كان الأمر الأجمل، فقلت لنفسي “إن كان النوم يفارقك في الأوقات الأكثر هدوءً فاستغليها يا عزيزتي” وأصبحت الأوقات مرهونة للقراءة والكتابة والمسلسلات والوجبات الليلة السريّة التي أطلبها من تطبيقات التوصيل أو أعدها لنفسي هي أمتع الأوقات. صحيح أني لا أحظى بنوم كافٍ بعدها لأن الجميع يكون مستيقظا ولكن لا بأس بالصداع الذي يعالجه كوب قهوة في الصباح طالما أن هناك مسرات ليلية تحصل بالخفاء عن أفراد عائلتي .على فكرة! أنا ماهره جداً في إخفاء آثار جريمة طلبات ما بعد منتصف الليل عن الأشقياء الذين سيطالبون بتعويضات حين اكتشافهم الأمر.

في هذا الشهر أنهيت رواية “هكذا كانت العزلة ” لخوسيه مياس، وانتصفت في قراءة رواية ” مائة عام من العزلة” لماركيز وقرأت الربع الأول من مجلد ” الف ليلة وليلة” وشاهدت مسلسل ” غزالي المدلل” على نيتفلكس. وكتبت يومياتي وبعض القصص وحذفت الرسائل المهملة وأعدت استجماع قوتي للعمل والكتابة من بعد فتور الأيام الماضية.

 ماذا عنكم؟ كيف حاربتم الأرق وهل غلبتموه أم غلبكم؟

العنوان اقتباس من قصيدة للمتنبي*

حاضر في الذاكرة.. باقِِ في القلب

مر عام.. وأنا أهرب من الكتابة إليك..

أهرب من أنك أصبحت ذكرى، من أن طيفك أصبح غيمة تطفو بجانبي ليل نهار.كنت أتمنى الكتابة عنك وأنت حاضر، تقرأ الكلمات وتعرف أنك خالدُ في الذاكرة وثابت في القلب.

عمي العزيز.. الذي صحح ميزان الأمور في أعيننا، بك لم نشعر يوم بأن المرض ضعف، لم نشعر بأن العوق عجز. بك كنا نرى كل من هم على كرسي متحرك مبادرون كريمون وأقوياء الشخصية شديدي البطش.

لقد عرفتك جزءاً ثابتاً في طفولتي، ثابتًا في الحماية وفي الصرامة، وفي القوة، وفي صنع الذكريات وفي الغرابة وفي المحبة، كنت دائماً وراء الأشياء الجميلة في النباتات التي كنت ترعاها في الحوش وفي الحيوانات التي كنت تقتنيها في منزلك كنت مصدراً للإعجاب والدهشة والسبب الأول في وجود كل ما هو جديد ومستغرب!

حينما كنت طفلة، كان يعرض فلم كرتوني عن الفتاة ” بوليانا” وهي فتاة ذات شعر بني تجدل خصلات الشعر من طرفي الوجه وفي نهاية الحلقات تصاب بمرض فتجلس على كرسي متحرك لم أشعر يوماً أنها مثيرة للشفقة أو الحزن، بل شعرت بالقوة والنضال. وحينما ذهبت هايدي لمنزل الأثرياء في المدينة لتعيش مع الفتاة الحزينة ذات كرسي العجلات، شعرت بالاستغراب لم هي حزينة وهي لا ينقصها شيء مثل عمي!

في كل يوم.. وحين تغمض عيني تلوح لي ابتسامته الصافية وأتذكر ترحيبه الحار بي وبأطفالي الصغار، لازالت صدى ضحكاته تتردد في أذني وكلمة ” هلا هفوووو” حينما يراني مقبلة عليه اشتقت لحكاياته وللذكريات التي جمعتنا سويًا.

فقده يعني الكثير، وبابه المغلق جرح مفتوح في الصدر، وغياب صوته رمل يملئ الجوف، لم يترك وراءه ذرية ولكنه كان يقول أنتم أولادي الذين لم أنجبهم ولطالما شعرت بأنه كذلك فعلاً وفقده كسر في الظهر.

في أيام مرضه الأخيرة كنت أشعر بأنه سيودعنا قريبًا رغم انكاري لذلك رثيته قبل الجميع وسكبت الدمع طيلة الأسابيع التي كان فيها في المستشفى، في زيارتي الأخيرة كان يغرق في الظلام ولكن حينما أمسكت بيدي وقالت زوجته الوفيّة ” عرفتها”؟  ابتسم وأومئ برأسه وشدّ على يدي ومن تلك اللحظة لم يتوقف قلبي عن البكاء والدعاء له كل يوم.

توفي عمي بعد 40 عام من المرض ولكني لا أنظر له الا كمحارب شجاع وقلب قوي لطالما لجئت إليه في وقت حيرتي وضعفي .

ترددت كثيراً قبل الكتابة، ولكن ليالي رمضان تنقب الذكريات وتوقظ موتانا النائمين في القبور بالصدقات والدعاء

لا تنسوه من الدعاء والصدقة في هذه الأيام الفضيلة.

هيفاء

كيف يبدو شكل الحياة من خلف المقود؟

سناب تشات يعيد تدوير ذكرياتنا ويصيبنا في مقتل أو مأمن أحياناً.

قبل أيام قليلة وصلتني الفيديوهات الأولى لقيادتي بصفة رسمية في شوارع الحيّ وذلك بعدما حصلت على رخصة القيادة. كنت أظن وقتها أني قد أصبحت محترفة وسائقة وقد أهلت رسمياً للانطلاق في شوارع جدة.

تمر بي تلك الأيام كحلم ضبابي لا أتذكر منه سوى إصراري على التعلّم، ثباتي وتشجيعي لنفسي، البحث عن الدعم المعنوي من الأهل والأصدقاء، والكثير من الارتعاش وضربات القلب المتسارعة حينما يطلق أحدهم بوق سيارته في وجهي أو من خلفي حينما أسير ببطيء في المسار المخصص للمتهورين. عن اللحظات الوشيكة للاصطدام والضياع المتكرر والمحاولات المتكررة لصف السيارة بشكل صحيح.

في القيادة واجهت مصاعب عديدة أولها جهلي المبرر بكيفية سير السيارة، ولأنني كبرت وفكرة القيادة كانت بعيدة المنال لم أتخيل يوماً أو أحلم أني سأجلس في المقعد الأمامي خلف المقود.

حينما صدر القرار عجزت عن النوم فرحاً، وتخيلت الكم الهائل من المصاعب التي ستزاح أخيراً على كاهل النساء، فرحت للجيل الحالي الذي لن يصدق المعاناة التي واجهتنا في المواصلات، والأموال الطائلة التي دسسناها في جيوب السائقين. عن التعب والعذاب والاستجداء لتلبية طلب تافه أو مهم كالذهاب الى المستشفى بعد منتصف الليل.

ولأني مثل جميع نساء كنت أعتقد أن القيادة ستمنحني أجنحة وقدرة على الوصول لكل ما يخطر في الخيال كنت محقة بذلك ولا زلت الى وقت قريب حينما أنتهي من القيام بمشوار شخصي مهم أسجد لله شاكره هذه النعمة التي حرمت منها سنين عشريناتي وأحمد الله أني بلغت بهذا القرار وانا في الثلاثينيات.

أكملت عامان من القيادة ولا زلت أذكر ما ساعدني على تجاوز الخوف وكأنه كان بالأمس، تدربت في مدرسة القيادة واخترت أن أتعلم من الصفر أبجديات القيادة رغم سخرية البعض وتهكمهم. سمعت الكثير من الضحكات التي تتبعها “مستحيل تسوقين” و ” ما أعتقد أنك راح تنجحين” و “من أول أسبوع والسيارة تشليح” تهزني الكلمات قليلاً ولكني أثبت وأزيد اصراري بمجرد تذكري لسنوات الجامعة حينما كنت أصلها في 6 صباحاً بالرغم ان محاضرتي تبدأ بعد 12ظهرًا. لأن الباص هو وسيلة المواصلات الوحيدة المتاحة في ذلك الوقت.

 حصلت على الرخصة بعد 30 ساعة من التدريب. واجهت التحدي الأصعب وهو الخروج الى ساحة المعركة الى القيادة في الشوارع الأكثر ازدحاماً والأحياء الأضيق طرقاً الى جدة المركز الرئيسي للقائدين المتهورين والساخطين من أشعة الشمس والتحويلات والحفر التي تنقب شوارعها الرئيسية.

كنت أقود في أوقات لا يخرج فيها الا المضطرين أوقات تخلو فيها الشوارع من البشر والقطط الضالة. في الساعة 6 صباحاً في أوقات العطلة في الساعة 4 فجراً في نهايات الأسبوع ولا أتعدى دائرة الحيّ جيئة وذهاباً، كنت أضحك في سرّي حينما أشاهد احدى الجيران وهو يقف ووجهه مطلي بالخوف على سيارته ولا يستريح الا حينما أخرج السيارة بقيادة ركيكة من الموقف وأنطلق بعيداً.

كان الخوف يتملكني حينما أفكر بالقيادة، تضيق أنفاسي ويتملكني الذعر الا أن سمعت نصيحتين كانت بالنسبة لي دعائم ثبات وثقة.

الأولى من صديقتي التي نصحتني بأن لا أبدل مساري الا ان كنت مضطرة والأفضل لي كمبتدئة هو المسار الأوسط.. اتبعت النصيحة ولم تعد تزعجني زمامير المتعجلين

والأخرى من أبي حينما قال لي لا تقومي بعمل مفاجئ في الطريق. تأني وخذي وقتك واستخدمي اشاراتك وكوني يقظة بما يدور حولك.

والحمدالله.. اتبعت النصائح وكنت بخير. قدت سيارة قديمة بعض الشئ ولذلك قلّ التوتر. ليس بها حساسات أمامية أو خلفية للقريب أو البعيد وكان عليّ أن اعتمد على الحدس وأحفظ مقاسات سيارتي الصغيرة تطلب مني الأمر وقتًا. حككت جانباً وخلعت صداماً لكن الأمور سارت على ما يرام هههههه.

اليوم أنا أقود باتزان واقطع جدة من شمالها الى جنوبها أصل الأرحام وأنزه الأبناء وأقابل الصديقات وبت أشتاق وأفضل الوقت الذي يسمح لي بالارتياح على المقعد الجانبي ولعب الكاندي كراش والاستمتاع برفاهية النزول أمام الأبواب.

يوماً ما سأحكي لابنتي قصة كفاحنا مع المواصلات.. كما حكت لي امي قصة السماح بفتح المدارس للإناث..

والحمدالله على أقدارنا المكتوبة وان تأخرت فقد وصلت في الوقت المناسب.

هيفا

عن مذكرات الفتاة التي لم تعد رصينة!

في 24 من سبتمبر وأثناء نظري الطويل من خلال النافذة وبعد صراع حيرة بين كتابين اخترت أن أصافح “سيمون دو بوفوار” اعترف أني ترددتُ كثيراً قبل أن أعقد معها صداقة المؤلف والقارئ سمعتُ عن تمردها وبأنها من أوائل من رفعوا راية ” النسوية ” في العالم. وبما أن الظاهر يحكم على الداخل والقارئ يُحكم عليه من كُتبه جازفت وقررت أني وحدي من سيتخذ الموقف أمام سيمون وليس ما قاله المغردون في إكس أو ما تناقلته الأفواه.

في حديثها العميق عن طفولتها الطويلة ذكرتني سيمون بنفسي لقد كانت تدور في فلكها الخاص، في كيانها البعيد ووحدتها العصيّة عن الفهم، عن ابتعادها الغير مألوف وأسئلتها الكثيرة. ربما عبرت سيمون عن قلقها ومخاوفها بالصمت والابتعاد، وهذا ما يحسب لها بأنها كانت أكثر شجاعة من طفلة القرية التي كانت تركض خلف الجميع هرباً من الوحدة وخوفاً من النبذ.

موقفي الذي لا أنكره من هذه المذكرات بأني كنت فضولية جداً اتجاه ما يحدث في عقلها ومتأملة للفكرة التي تتدحرج طويلاً في رأسها وبأفكارها الخاصة حول الحب والزواج والعلم والأصدقاء.

لقد عرفت سيمون مزاياها منذ وقت مبكر وحينما كان اليأس يهجم عليها بكل ضراوة كانت تسمح لنفسها بالبكاء وتعدها في نفس الوقت بالنهوض لم تكن ترفع راية الاستسلام الا في الأوقات التي انهزمت فيها عاطفتها نحو جاك.

يحسب لها  أيضاً أن لها قلماً عذباً رقراقاً متسلسلاً مسترسلاً كنهر عذب، أفكر في زازا بعد ان انتهيت من الكتاب وآلمني أنها قالت عنها ” لقد اشتريت بموتها حريتي “. رافقني الكتاب لمدة شهر تقريباً ولم تكد تمر على صفحة الا وقد خططتها بقلمي أو توقفت قليلاً لأسمح للمعنى بأن يدور في فُلكي، وفي عبارتها التي قالتها ” لقد حكم علي بالوحدة، فلأدخل عالم البطولة” عرفت كيف ينتفع المرء من ظلامه ليغلب النور.

جعلت سيمون من الكتب حصناً منيعاً بينها وبين واقعها واختارت أن تحيا بين دفتي كتاب وتضعها حائلاً بينها وبين ألمها التواق للاستمرار وصراعاتها التي لا تكف وعواطفها التي لا تكاد تهدأ. ” كم هو كلي حضور الانسان، وكم هو جذري غيابه، ويبدو ان أي ممر مستحيل بينهما ” كم من غريب عبر بنا جهله الكثيرون وبقي في آخر حجرات القلب عصياً على النسيان، وكم من قريب غاب وغابت معه كل الأشياء التي اعتقدنا أنها كبيرة على التسرب من شقوق القلب والذاكرة وكان جاك بالنسبة اليها الحيرة والحب الوجود واللاوجود التأرجح والثبات.

كنت أعتقد أن مذكراتها ستطفح بالخروج عن التعقل وأن اختيارها لأسم “مذكرات فتاة رصينة/ملتزمة” هو نوع من التهكم ولكن ما وجدته فعلاً بأنها كانت رصينة ولم تجد أن الحرية هي أن يترك المرء لجسده حرية التصرف بالعقل والعاطفة أنما أولت العقل والعاطفة قرارها الأخير على الجسد وهذا ما أحترمه دائماً في أي إنسان وجد نفسه حراً  وعرف أن الإنسانية هي أن يحترم المرء نفسه أولاً. يبدو انها تبنت هذا الفكر السليم للفطرة في بداية حياتها قبل أن يجمح عقلها ويتحكم قلبها الفارغ من الإيمان في غريزتها، قبل أن تحيد الى الجانب المريع من الأفكار وتركض خلف أفكار سارتر العبثية ماحدث بعد تأثرت به أنها لم تعد تلك الرصينة أو الملتزمة للأسف.

لدي روايتها الأخرى “دماء الآخرين”  وأشعر بأنها تناديني من خلف الركام للقراءة ، تجاهلت النداء وتركت لكتبي المتراصة على الرف مجالاً للقفز بين ذراعي بعد أن ينام الجميع وينتصف الليل.

أمسك الآن بكتاب ” درب الكتابة” لرائد العيد، اختارني الكتاب وربما كان الاختيار لأن الأقدار سترسم لي طريقاً أجهله الآن، وسأعرفه في الوقت الذي يأخذني فيه هذا الدرب لمكان أحب أن أكون فيه.

كونوا بخيـر.

هيفاء

11-10- 2023

لروحك الحاضرة رغم الغياب

من أجلها.. ولكي تبقى في الذاكرة طويلاً ولا تأكلها آفة النسيان أكتب.. أكتب لتظل خالدة وراسخة في الذاكرة كجبال رضوى، ومتدفقة كينابيع ينبع أكتب لتظل مستيقظة في قلوبنا.. رغم نومها القديم..

في العام الذي كان الشتاء يحل به في آخر العام وفي الوقت الذي كانت به الأمطار تعالج الأراضي القاحلة بالماء.. في الأيام الضبابية التي تفصلنا عن أيام الاختبارات النهائية وفي العطلة الأخيرة عطلة عيد الأضحى التي كنا نقضيها منذ ان كنا صغاراً في مزرعة جدي. كنا نجتمع سنوياً تحت سقف واحد.. تاركين خلفنا حياة المدن والرفاهية قاصدين فيها سكينة الأرياف، في الوقت الذي لم تكن السلوى فيه سوى متعة التحلق حول دلة القهوة وصناعة النكات والطهي بكميات كبيرة لا تكاد تسد أفواه الأفواج الهائلة من البشر. نجيء الى منزل المزرعة في كل إجازة منتصف العام الدراسي.  6 أخوات و3 إخوة ونحن أبنائهم الذين يصل عددنا الى الثلاثين حفيدًا. نزدحم بلا ضجر ونتراص في الحجرات الأربع وننام كأسماك السردين بعد السهر الطويل. ننقسم في غرفتين داخل بيت المزرعة ومثلها في الخارج وفي الخيمة التي نصبت من أجل ينام فيها أزواج الخالات وأولادهم اليافعين.

كانت أمي آسيا تنتظر هذا الوقت من كل عام تفرد يديها وأحضانها لاستقبالنا بحفاوة. مزهوة بنسلها السليم وقلوب بناتها النقيّة فرحة بسلالتها الطيبة البعيدة عن الخبث والغيرة والأحقاد..  لم تكن مسنة في ذك الوقت ولا أدري لم كانت تبدو كذلك، بوجهها الدائري الأبيض وعيناها النقيتين، بنظارتها العريضة الحواف.. بأنفها الجميل الدقيق. بابتسامتها الجميلة الناقصة الأسنان بطرحتها البيضاء التي تلف بها وجهها القمري. بمشيتها المتهادية وحنانها المتدفق.. بهدوئها الكثيف. بطيبة قلبها المُنيرة. كانت أمي آسيا حاضرة في المكان متسيّدة في القلوب ولازالت.

قبل يومها الأخير كنت أتأمل بلا وعي كفيها الناعمتين وساعتها الذهبية.. جسمها الممتلئ وقدميها الممدودتين.. بجواربها السوداء وردائها الأزرق.. حقيبتها التي لا تنفذ من العلك والكحل ودهن العود والريالات الجديدة. أتذكر عطائها السيّال وعاطفتها اللينة.. لون الحناء في شعرها في أثره الزاحف من أصابع يدها، بحزنها العميق المكتوم، بصفاء نيتها ولمعان سريرتها بحب عطائها للفقراء والعمال والأيتام. بحضورها اللافت وباصطفاف أطفال الشوارع على الحائط حين مرورها لأجل ما تهبهم من فم حقيبتها المفتوح. كانت أمي آسيا سيدة النساء وقاهرة الصعاب ودائمة الابتسامة.

كنت أحسب أني نسيتها، ولكني في كل نهاية عام يلتصق وجهها في عيني كعدسة لاصقة، أتتبع نبض قلبي المشتاق وأتمنى من الأعماق أنها الآن هنا.. أناولها أولادي واحداً تلو الآخر.. ليحظوا ببركة حضنها.. للمسة رحمة على رؤوسهم الصغيرة منها. واليوم قلت بنفسي لم تكن لكِ حفيدة كاتبة عبثاً.. سنوات وسنوات صقلت قلمي حتى يكون مناسباً لرسم ذكراكِ على جدارية خلود الكلمات.

لقد مرّ 17 عاماً وجرحك مفتوح في صدورنا كقبر مكشوف، كلما اندمل بالنسيان أتى غراب الحزن ونقب سطحه اللين، كلما نسينا أنكِ لم تعودي هنا.. تتسرب ذكراك من خلف شقوق الزمن وتنشر أوراق ذكرياتنا معاً. تعيد كتابة أجندة الماضي نستبدل الأفعال المضارعة بضمائر الغياب، نبدل الجمع بالمفرد ونسرد فواجع ليلتكِ الأخيرة. نغترف من بئر الشوق ماء الدمع الذي سكبناه كثيراً ونرفع للسماء كفوفنا المرتجفة بالدعاء بأن يهبنا الله رؤيتك بالمنام، لنضمك كثيراً بقدر السنوات التي كبرنا بها وتجاوزت قاماتنا جسدك القصير نضمك بقوة نحن والأيادي الصغيرة التي أنجبناها بعدما غبتِ

حينما كنت طفلة، كنت أقضي عطلة الصيف في بيتك، أهرب من تأخر القرية التي أسكنها إلى تقدم المدينة التي بها تقيمين، في حي المنتزهات جنوب جدة في المنزل ذو الباب الأزرق المنصوب على التلة بنخلته التي جلبتيها من أرض الينابيع وغرستيها في أرض الملح، النخلة التي كانت ترتوي من ماء تكييف طمأنينة غرفة نومك فنشرت فسائلها حولها من بركات يديكِ.

كان المنزل شعبياً بطلاء أبيض وعدد غرف قليل وسطح لم يكتمل نمو بناءه كنا نلعب بحذر حول الأسياخ الحديدة التي تنبت من أرضيته كالسنابل والتي لا أعرف لم تخترق رأس أحدنا أو تتسبب بفقأ عينه.

من غرائب ذلك المنزل الذي دكّ قبل وقت قليل بجرافات الإزالة، دورة مياه صغيرة بنيت تحت بيت الدرج المؤدي للسطح، ندخله ونحن أطفال منكسي الرؤوس كي لا يرتطم السقف به. حمام مريب يوصد بباب خشبي رقيق  وزرفال من حديد. وعلى الرغم من كونه حماماً منزلياً بحتاَ الى أن مرتاديه اختاروا أن يكتبوا ذكريات عبورهم به، ربما لأنه مستفزاً للكتابة لاحتكاك بابه بركبهم أثناء الجلوس على المرحاض.

كان الحمام الغريب على يسار المدخل وتواجهك في الأمام مغسلة بلون سماوي منتصبة بشموخ تحمل المرآة التي تسائلت عنها مراراَ. لم لم يفكر جدي في غرس المصابيح في زهورها الزجاجية الجانبية؟ ربما لهذا السبب كانت كسيرة وحزينة ومليئة بمخلفات الذباب والغبار.

على يسار العابر للمدخل يأخذك درج إلى السماء حيث السطح. درج اسمنتي لا سقف له يوصلك بالطقس المشمس صيفاً الممطور شتاءً المشبع بالرطوبة والمخنوق بالغبار طوال العام. كنت أجلس على عتباته الأولى لأستمع الى مذياع جدي وقرقرة شيشته بانتظار نزوله للأسفل. أتجنب الصعود كي لا أثقب هدوء عزلته الملكية المختارةـ. بجانب الدرج مجلس وضع للرجال مستطيل الشكل ترابي اللون والرائحة يتطابق بشكل عجيب نقش سجاداته بنقش المراتب ومساند اليد، في الوجه نافذة تسدل على وجهها ستاراً بلون صبور يحتمل لطخات أيادي الأطفال وعبثهم المستمر.

يعزل بين هذا القسم والصالة الداخلية باب من الألمنيوم المطعم بالزجاج الشفاف الملون. لنا صور كثيرة أمام ذاك الباب ربما لبقائه سليماً أعواماً طويلة قبل أن تشتد يد أحد الأطفال وتقذفه بلعبة ليكسر زجاجه ويوصم بالنقص والخطر.

حينما تفتح الباب والى اليسار توجد غرفة خالتي والى جوارها غرفة مجلس النساء ثم ممر صغير ينتهي بباب يؤدي الى الشارع الخلفي. حينما كنت أصل الى البيت كنت أركض لأضم أمي آسيا. كنا نصل غالباً بعد صلاة العصر وأجدها تستضيف نساء بملامح غريبة، يفترشون الأرض وبجانبهم بقش قماشية لبضائعهن. نسوة باكستانيات بملابس لها ألوان كثيرة لا يرتدن العباءات، في أياديهن أساور كثيرة ملونة وفي وجوههن سحنة التعب والغربة. أنوفهن مثقوبة وتتدلى منها أقراط كبيرة الحجم.. كنت أخجل من الاقتراب منهن. رائحتهن تعبق في المكان وتصلني. كانت عيني تلاحق انحسار الشال الأصفر عن رؤوسهن كاشفاً عن شعورهن الحمراء وآذانهن الممتلئة بالثقوب والأقراط فأتلمس بغرابة أذني الفقيرة ذات القرط الواحد.

كانت أمي آسيا تطعمهم بأوان بلاستيكية ملونة وأكواب مثلها تأمرنا بأن نأخذها منهن لنملئها بالماء، كنت أتساءل عن سر وجودهن المتقطع فعرفت لاحقاً أنه حينما يأتين البائعات ويعرضن لها البضائع تخجل من رفضها فتشتري ثمن جوعهم بالمتبقي من الغداء لديها، ولا أظن أن أحداً في ذلك الزمن كان يفكر للحظة قبل أن يوصد الأبواب في وجوههن المتعرقه من حرارة الشمس.

في الصالة المستطيلة المؤثثة ببساطة توجد خزانة بلون أبيض تحمل التلفاز الذي مل عبثنا واصرارنا على البحث عن قنوات مصر، والى جانبه كان الممر المفضي الى المطبخ والحمام الآخر والغرف التي كنت أسميها كنز الأسرار  لأن بها خزانة ممتلئة بالكتب والصور ودفاتر المذكرات والفواتير.

كان المطبخ بسيطاً بخزائن بيضاء بصف واحد وثلاجة ترتكز للجدار المواجه، وأرضية محطمة كنا نحب افتراشها بعد منصف الليل حينما ينام الكبار فنتسلل كي نملئ الصحون بسيريلاك الأطفال ونأكله سراً وتغمرنا السعادة التي ننساها صباحاً حينما نعاقب من أم الطفل الجائع.

في هذا المنزل قضيت أياماً جميلة عاصرت وجود الهاتف الأرضي لأول مرة وأشرطة الفيديو واكتشفت مواهبي في الرسم وبداياتي الأولى في قراءة مجلة ماجد وطهي الإندومي بنكهة الصابون و قلي البيض واكتشاف روايات عبير المخبأة، مارست السهر الطويل على لعبة الأونو وقراءة المجلات بالاستماع الى إذاعة الاف الام وطلبات الأغاني، بالسهرات النسائية مع خالاتي وصديقاتهن وتبادل مجلات  أزياء” البوردا” بينهن عاصرت حضور الجهاز الكمبيوتر المكتبي الأول ومشاهدة فيلم التيتانك عن طريق أشرطة  السي دي .

بدأ نضوجي الحضاري من هذا المنزل الشعبي لا أتذكر اني يوماً ما شعرت بالملل في هذا المنزل المليء بالعجائب والأحاديث. احد العجائب هو وجود فوهة خزان الماء في وسط الصالة، حينما تأتي سيارة الصهريج لتزودنا بالماء يندس الخرطوم من تحت البساط إلى فم الخزان وعلى اثر اندفاع الماء الى جوفه يخرج الهواء ويصنع قبة هائلة تحت البساط نقفز عليها في منظر سريالي مبهج. كنت أشعر بأني في احدى حلقات مغامرات السندباد وفي الخزان تنام قرية مغمورة تسكنها جنيّات جميلات وحوريات بشعور زرقاء.

كانت أمي آسيا تنهانا عن اللعب وهي تضحك وبجانب قدميها الممدودتين تضع حقيبتها المدرسية. في تلك الأعوام أتيح التعليم لكبيرات السن، وفتحت مدارس محو الأمية أبوابها لهن وكانت من أوائل من وقفن على شبابيك الخياطين لاستلام المريول الأزرق والمبادرة الأولى لشراء حقيبة جلدية للكتب وأقلام من مكتبة الحي، كانت مندفعة بقوة لفك رموز القراءة لهدف سامِ وعظيم لتقرأ من المصحف مباشرة بلا أي تدخل بشري حقيقي أو صوت شيخ يبثه جهاز التسجيل.

كانت تفرح لقدومنا لأننا نساعدها في كتابة الواجبات ونقرأ معها ما يصعب عليها من قراءة للكلمات، كانت تضع نظارتها وتصنع تعبيراً مضحكاً في وجهها وهي تحاول تهجئة الحروف، ننفجر ضحكاً ولا تغضب، نسخر بجهل وتبتسم، نمل من التعليم ونهرب فلا تيأس، لم تكن ذات أمراض مزمنة ولكن جهازها الدموي انهار وأصيبت بالضغط حينما لم تنجح في الأملاء، وحينما نجحت أخيراً لم يغادرها فاتخذت علب الادوية مكانها في حقيبتها السوداء الصغيرة.

 عاشت أمي آسيا في هذا البيت أسعد أيام منتصف عمرها فقد قضت وقتها وهي تنسج روابط المحبة بينها وبين جاراتها وبين الأقارب اللذين بالجوار بحلقة التحفيظ الذي تذهب اليه عصراً وبالخياط الذي يخيط لها ثيابها فتضاعف له الثمن لأنها تعرف أنه لن يأخذ من ثمنه سوى القليل. لم تعش لتأخذ انما لتعطي. في تلك الأثناء اشترى ابنها الأكبر أرضاً في الشمال، ولأنها أرض الأثرياء في ذلك الوقت نصب لها فيلا وشطرها لنصفين وانتقلت أمي آسية من البساطة للتكلف ومن الجارات والرفقة إلى الوحدة من الباب الموارب الى الباب الموصد الذي قد يمر أسبوعاً ولا يطرقه أحد، من المنزل المنبسط والبساط المنتفخ والحمام المريب الى 4 دورات مياه وطاولة طعام ودرج حلزوني. شكرت ابنها على المنزل الجديد ولكنها تركت نصف قلبها هناك وهبته للنخلة والمنزل الشعبي ذو الباب الأزرق فوق التل.

قبل رحيل العام بيوم واحد 29 -12-1428 هـ أفلتت منا يدها إلى سراديب الغياب، استقبلنا عامنا الجديد بجرح عميق، وحزن مُر.

أتذكر الآن.. لأني حين الحادثة كنت كبيرة في العُمر صغيرة على الحُزن، لم أستوعب ثقله ولا سواده اللي طلا وجوهنا جميعاً وحتى هذه اللحظة لم تتحسن صورة الحياة الناعمة في أعيننا، في نهاية عطلة الحج وحينما غادرنا جميعاً المزرعة استعادت الهدوء وفي مكالمتها الأخيرة قالت انها ستصوم لأنها تود أن تطوي صفحة نهاية العام على طاعة الله، لملمت عباءتها، وأقفلت حقيبتها، ووضعت في حضنها علبة من التمر، جلست في المقعد الأمامي وفي الخلفي كانت خادمتها وانطلق جدي نحو الطريق.. وبعد 5 دقائق من الانطلاق غشيت عيناه بضوء خاطف أبيض فانحرف المقود وتدحرجت السيارة.. تناثر الرطب على الرصيف وفارقت أمي الحياة ملتفة بعباءتها. ودعت الحياة في اليوم الأخير من العام الجديد واستقبلناه نحن وخادمتها وجدي بالدموع ورائحة الحزن وغصّة الوداع..

مضى الآن على وداعها 17 عاماً.. ولا زلنا نزيح لها في مجالسنا مقعداً ونجعل لها من صدقاتنا نصيباً ومن دعواتنا حقاً، كانت تقول أننا بذور صالحة وحينما كبرنا أدركنا نبوءتها في ذريتها. لم يلتوي أحداً في طريقه الا وقد استقام ولم يسقط منا أحد الا وقد وقف على قدميه. لا زلنا عصبتها في غيابها نتقاسم رغيف الهموم ونصنع حلوى الضحكات، لازالت كما تعرفنا تنبع من قلوبنا المحبة ونحيط بعضنا بسياج الوفاء.

ذهبتِ يا أمي ونحن ورثتك من النقاء والكرم قفل بابك ولكن أبواب أبنائك لازال مفتوحاً في وجوه الغرباء والمساكين، نمتِ ولازالت أعين كثيرة مستيقظة من بعدك ترى الحياة بحياد بلا ألم دائم ولا فرح باقِ.. لديك الآن من أحفاد الأحفاد 16 حفيداً نجتهد بأن نزرع في كفوفهم الصغيرة سنابلك وننثر في قلوبهم الغضّة رياحينك. ونبقي ذكرك حاضراً في كل مجلسِ وروحك شاهدة في كل عيد. رحل كل شيء ولكنِ بقيتِ في الأشياء التي لا تموت في الذكريات التي لم تبهت. في القلوب التي لازالت تحبك وتدعو لكِ في السجود.

حفيدتك

هيفاء

شارع فاير فلاي

عن الصداقات الممتدة بالرعاية والمصاعب المحفوفة بالأمل، عن الأماني المحلقة فوق أسطح المنازل والأيدي المتشابكة في الطرقات الطويلة، عن الأيام القاسية والأعوام المدببة التي وخزت الفؤاد. عن كل الأشياء التي جمعت “تالي هارت” و “كيت مولاراكي” في البوم صور لعقدين من الزمان..

في يوم بطيء الرتم وحينما كانت الحياة تستعد للنهوض من بعد أزمة الكورونا.. ولسبب وحيد هو إعجابي بتمثيل كاثرين هيقل اخترت ان أشاهد ماذا تفعل هذه الحسناء في شارع ممتلئ بالحشرات التي تضئ ليلاً. خمسة عشرة دقيقة أولى كانت كفيلة لجذبي لمشاهدة الموسم الأول كاملاً. ثم صرفتني الأيام وبعثرني الانشغال الى أن قررت مشاهدة الجزء الثاني في الشهرين الماضيين بصفة متقطعة وهي العادة التي لم أستطع تغييرها منذ أن بدأت تحميل المسلسلات عن طريق التورنت في زمن dsl والمنتديات.

 يعرض المسلسل على شبكة النتفلكس الآن، ويتكون من جزئين مدة الحلقة الواحدة منها يصل الى 45 دقيقة تقريباً، يعاصر الفلم حياة كيت وتالي منذ المراهقة الى يصلوا الى منتصف الأربعينات في العمر، تتنقل المشاهد ما بين الماضي والحاضر بطريقة فنيّة تبقي المشاهد حاضراً في الوقت والزمان مما يجعله يمسك بزمام الأمور ولا يشعر بالتيه وهنا تكمن المتعة بالإضافة للواقعية وجودة التصوير وملائمة الملابس.

تبدو الشخصيات مألوفة ومتوقعة ولكن الأمور لا تبدو كذلك حينما تُظهر شخصية كيت اللطيفة البريئة عن أحقاد صغيرة وغيرة زاحفة ومقارنات تهتك نسيج الصداقة المتين. نهاية المسلسل غير متوقعة وممتلئة بالمشاعر والمواقف التي يتمنى المرء فيها أن يقبض بيده على الحياة.

في هذا المسلسل ستعرف أن الصداقة هي من أجمل الأشياء التي نعيشها ولكنها للأسف ليست دائماً مستمرة، وقد نحزن حينما تضمر أطرافها  وتتساقط أوراقها وتصاب بالبرود والفتور ويمضي كل واحد في طريقه، ولكن المؤلم هو أن تنتهي هذه الصلة الوطيدة بمجزرة عاطفية تفطر الفؤاد وتخنق الانفاس.

نريد أن نتفادى هذا الألم ونريد أن نحمي رابط الصداقة من سكين الفراق كيف لنا أن نحافظ عليها بدون أن تصدأ ونحتفظ بلمعانها العمر كله؟ أو حتى كيف نفترق بلا دماء ولا أحقاد ولا مشاعر ممزقة.

ما لاحظته هو أن الفراق يحدث غالباً نتيجة مواقف متراكمة أو نضوج ووعي يتبلور بطيئاً على مدى الأعوام يسبق غالباً فيها احدى الصديقين الآخر، أو نتيجة عيوب تقرر أن تتضح فجأة ويصعب على الآخر المضي قدماً معها، أو ربما ضغوط اجتماعية وعملية أو مكانية تفرق توئما الروح وتحيلهما الى غريبين بلا أسف أو ندم.

هل لديك صديق دامت عشرتكما لوقت طويل ثم شعرت فجأة أنه لم يعد يشبهك؟ هل شعرت بأنك مغدور أو مصاب بالخيبة حينما رحل عنك أو شعرت بأنك لئيم عندما تعيش في صراع فكرة الابتعاد عنه؟

في أعوامي الماضية كنت أقبض بكامل قوتي على سواعد أصدقائي وأن تخلخلت خطواتهما في المضيّ الى الأمام استخدم كامل قوتي في الإسناد والإمساك والدفع وان تطلب الأمر غرس الأظافر وعض النواجذ للاحتفاظ أفعلها ولا أتردد.

كنت دائمًا أشعر بمسئولية الوفاء وآخذ على قلبي مسئولية الاحتمال وامتصاص الصدمات ولا أندم ولن أندم لأني الله أكرمني بصداقات ماسيّة لا تصدأ بالبعد أو المواقف ولم تتلفها رطوبة الأيام، وان حصل وتخليت أو تم التخلي عنيّ فأنا الآن أتقبل بصدر رحب وأفسح الطريق . لم أعد أرغب في سد ثقوب الغياب مرة أخرى سأدعو النسيم الجميل للعبور وللذكريات البيضاء النقيّة حرية التجوّل في الروح .

ولكني أرغب في طرح حلول لمن يشعر بأن صديقه لما يعد مناسباً أو يشعر بأنه يفضل الابتعاد أو تم الابتعاد عنه من الطرف الآخر.

  1. حاول ألا تحرق كل الجسور التي عبرتم بها سوياً وإن تعرضت للإساءة فانسحب ببطئ الى الوراء، حافظ على بياضك وان آلمك الاتهام او شطرتك الكلمات الى نصفين. وان شعرت انه يبحث عن أسباب للفراق لا تدعه يجدها، غادر بسلام.
  2. اترك له حرية اختيار الوصل والبعد، لتكن الأعياد والمناسبات والواجبات هي فرصة التلاقي، ولا تنسى ألا تمتعض حينما ترى أحداً يأخذ مكانك فأنت حتماً ستجد من يحل مكانه أيضاً.
  3. احتفظ بأيامكما الجميلة كماهي ولا تشوهها بتذكر المساوئ ولا تجعلها في حائط تبكي عليه أيامكما السالفة، امضي للأمام بوجه مشرق وقلب قوي وثقة بأن الله سيصنع لك حاضر أجمل.

لم أكن حكيمة في يوم ما ولا زلت حتى هذه اللحظة أفتقر لذلك ولكني مررت بتجارب كثيرة. فارقت صديقات بصمت وانسحاب غامض ولازالت الأسباب حتى هذه اللحظة مبهمة. ولكني أسامح واحتفظ في ذاكرتي برنين الضحكات العالية التي جمعتنا وأدعوا لهن بالخير، لم أعد أحمل قلبي ثقلاً ولا أطالب بتفسير فمصير النجوم هي الافتراق والاحتراق في مجرّة الكون الشاسع.

هل استمتعتم بالتدوينة؟ شاركوها الأصدقاء من فضلكم، وزر المتابعة سيمكنكم من قراءة الجديد في الأيام القادمة

وكالعادة أحب أن أتذكر معكم وآخذ اقتراحاتكم في التعليقات بشأن الكتب التي تتحدث عن الصداقة والأفلام التي تحكي عن قصة عظيمة أو مسلسل دافئ كشارع فاير فلاي.

هيفاء

16-يوليو -2023

منازل تسكننا

مساء الخير.. بتوقيت كتابتي الحاليّ لهذه التدوينة، وبعد انقطاع طويل عن الكتابة في أمور شخصيّة قررت أن أثبت هذا اليوم على جدار الذاكرة بمسامير الكلمات.

لقد اتممتُ يوم الخميس الماضي أسبوعاً من السكن بمنزلي الجديد. وبمنتهى الغرابة شعرت بأني أسكنه منذ وقت طويل جداً، ربما لأني عشتُ فيه خيالاً قبل أن يكون واقعاً. لم أعتد بعد على السِعة، وعلى الفضاء الذي يسمح لأطفالي بالركض بدون أن تصطدم أجسادهم بالجدران أو حواف الأثاث. ولا زلت أمكث لوقت طويل بالمطبخ وأنتقل من مكان لآخر بحثاً عن زاوية أألفها لتقطيع الطماطم بعد أن كانت كل الخيارات ملغية في السابق، فقد كنت أدير جسدي فقط نحو اليمين واليسار لأخذ البهار من الثلاجة لأسكبه في إناء الغداء على الموقد.

في منزلي القديم كان الاتساع في مطبخي لا يكفي لـ 3 أشخاص وقوفاً، ورغم ذلك كان يصدح بالكثير من الحكايات فوق مجلي الغسيل. وكان يطهى على موقده الصغير الطعام الطيب، وفي أوقات اكتئابي الصعبة كنت أنهار على أرضيته الضيقّة ضامة قدماي إليّ لأنه المكان الوحيد الذي أستطيع البكاء فيه ولا يقتحم خلوتي أحد.

في اليوم الثالث من سكني ومن مطبخي الجديد وبالمئونة المتبقيّة من شقتي القديمة وجدت طحيناً وسكراً وزيتاً. وبما أن البرتقال هو الصنف الأول من الفواكه المشتراة قررت أن أعد به كعكة شهيّة مع الزبيب. فكرت بأن جدرانه اللامعة تحتاج إلى دفئ رائحة الخبز النابعة من الفرن. وربما لكي أتأكد بأن مهارتي في إعداد الكعك لم تهتزّ وتتأثر بفعل الانتقال من ضجيج وسط جدّة الى أحد أطراف أحيائها الجديدة. الحيّ هادئ تماماً وبه الخدمات الأساسية التي لم أتضجر منها بحكم نشأتي في القرية، في كل يوم افتح فيه نافذة غرفتي والتي تسمح لجسدي كله بأن يواجه الشمس والسماء أنظر للأفق وللتلة الجبلية البعيدة وللطريق الذي يأخذ سيارات المسافرين إلى المدينة المنورة، أتنفس بعمق ويقارن عقلي بين صورة اطلالة شقتي القديمة ومنزلي الحاليّ ، أتذكر النافذة الصغيرة و الطريق الفرعي المزدحم وصخب طلاب ثانوية المدرسة المجاورة والأشجار الباسقة التي تذبح سنوياً على قارعة الطريق و لا تكف عن النمو ثانية، عن أصوات السيارات المتواصلة وفزعي على أطفالي حينما يسبقوني نزولاً إلى الشارع.

في مكالمة هاتفية مع أختي ونحن نقيس مدى البعد بيننا عن طريق “قوقل ماب ” قلت لها بأني أشعر بأني في كوكب زحل وقد ابتعدت عن الأرض التي يسكنها الجميع وبت وحيدة في المنفى، فعلاً هذا ما أشعر به حتى هذه اللحظة، ولكن ما يرطب يباس قلبي في البعد المكاني بيني وبين منازل عائلتي نبتتي “صُبح” التي حملتها معي شخصياً حين الانتقال ووضعتها بجواري في المقعد الأمامي وقدت الطريق وانا أسترق النظر لها بحنوّ لتستقر على مكتبي الذي نصبته حال وصولي لعمل مستعجل ولتطرح فوقه بعض أغصانها وتملي علي فكرة تجذيرها في أونِ مائية لتتكاثر، ولأملئ أركان البيت بها في المستقبل القريب.

لايزال الفراغ يملئ الأرضيات والجدران، لم أقتني أثاث بعد وقبل أن أفعل ذلك خططتُ للغرفة التي ستكون بها عزلتي، مكتبتي، والأركان التي سأضع فيها أطفال “صبح” والفناء الخلفي الذي سيصبح وفق تخطيطي حديقة منزلية صغيرة أزرع فيها الثمار وأملئ منها روحي بالخُضرة. لازلت أتلمس آثار نبوءتي بشأن العمل المنزلي، وشراء مكتب من أيكيا، وهجر فكرة البحث عن عمل خارج المنزل في الوقت الحاليّ، ولا أعرف ان كانت ستتغير هذه الفكرة في المستقبل.

أن أنعم بالسِعة هو نعيم وأن أمارس ما أحب بلا قيود رحمة وبركة من الله وأن أمتن كل صباح للعوض الجميل وراحة البال هو ما سأجعل له مكاناً في قلبي ليربوا ويكبر كل يوم ويتكثف كالغيم في صدري

تتبعت في ذاكرتي عن عدد البيوت التي سكنتها ووجدت أنها لا تتجاوز الخمس، فحينما كنت طفلة كبرت في منزل شعبي يطل على حوش جدتي، ولأن أمي كانت تخشى خروجنا من الباب الخلفي للمنزل جعلت من النافذة ممراً نحو بيت الجدة العامر بالأصوات. كانت تفتح درفتي النافذة وتساعدني على التدلي وحين تلامس قدمي الأرض أفر راكضة نحو الحريّة ،وبعد سنوات قصيرة بنى أبي منزلاً في نفس الحوش، منزل شعبي أنيق، يحوي 7 غرف وسطح وغرفة للخادمة، لا يزال حتى هذه اللحظة بيتنا الذي يتراكض فيه الأحفاد ونتزاحم به نحن الأخوة  ونحتل غرف الضيوف للنوم، رغم بناء غرفتين إضافية في السطح الى ان معالمه لم تتغير كثيراً ولايزال في حالة ممتازة ولاتزال ابوابه مواربة ودائمة الاحتمال لدخول ضيف، أحب في بيتنا رغم قدم تصميمه جاهزيته المستمرة لاستقبال الضيوف ولمّة الأقارب، لايزال ابي حفظه الله برغم تقلص العائلة الى 4 أفراد يشتري مئونته بنفس الكم الذي كان يشتريه ونحن جميعنا به، ولازالت امي تطبخ باستفاضة لاحتمال مرور عابر تطعمه. قبل فترة قصيرة تمنت أمي بيتاً كبيراً يسرح فيه أحفادها بلا قيود وأجنحة يسكن بها ابناءها المغتربين حين يجيئون في العطلات، ولأنه من الصعب حدوث هذا الأمر حالياً قلت لها باقتناع تام بأن هناك من يملك القصور والمنازل ولم يطرق بابه زائر ولم يلم أحباباً على سفرة عامرة كما يفعل بيتنا المتواضع هذا، كنت أقول لها بأن البيوت بساكنيها وبضيوفها المستمرين وبالراحة التي تلازم أهله وبالعافية التي تسكن أجساد قاطنيه، كنت أدافع باستماتة لرفع مكانة هذا المنزل وأظن أني فعلت الصواب.

في بيتي السابق المتواضع لم أكف عن استقبال أي شخص ولم أخجل من آثار ألوان أطفالي على السجادة، لقد استضفت مراراً أخواتي وصديقاتي وأطفالهن، لم يكن الأمر سهلاً في ظل زخم التصوير والاستعراض بالأواني والأثاث ولكني حرصت على قبض اللحظات الجميلة ولم أرغب بأن يحول بيني وبينها أريكة باهظة الثمن وأكواب أنيقة، ولا زلت أتمسك بهذه القناعة حتى الآن. كما أعتقد بـأن المنازل أعمق من مكان يسكنه صاحبه ويعيش به.

حالياً أبحث عن كتاب مناسب ليضللني، أكملت شهراً ونصف وأنا بعيدة عن القراءة أفكر في “فن السفر لآلان بوتون” و “أزمة منتصف العمر الرائعة” وفي يدي كتاب” المدّ الهائل” المقتبس منه “عدنان ولينا” ولم أقرأ منه سوى أولى الصفحات.

أود أن أقرأ في كتب تتعلق بالمنازل وتعدد المساكن، شاركوني اقتراحاتكم يا أصدقاء 😊

نبتة ظل 🌱

تختبئ مني الأفكار، احتفظ بها دائماً في جيوبي، ولكنها تقفز وتفر الى مكان أجهله في الذاكرة، أعيش في أفق محدود، محشوّ بالتفاصيل الصغيرة والمشاعر الولاّدة، لا أكف عن السفر وان كنت في بيتي بين جدراني، ومن تحت أقدامي يركض الأطفال، لا أكف عن الإبحار وان كنت واقفة أمام الموقد لأعد وجبات الغداء.

قد يبدو من بعيد وبعدسة مشوشة أني أمتلك حياة عاديّة روتينية يقتلها التكرار وتنتهي يومياً في الوقت الذي انتهت فيه ليلة البارحة، قد يكون هذا الأمر صحيح لأن القشرة الصمّاء تخفي عما يدور بباطنها من براكين ومراسِي وفراشات وأجنحة.

حين أفتش عن حياة خارج الحياة أكاد أجزم أنه لم يفتني شيء كل الأشياء تكررت وكل الأماكن تشبه بعضها والوجوه أيضاً، القصص ما تهمني هي القصص و ها هي أمامي تنام في ثنايا الكتب وفي شاشات التلفاز وفي محادثات الأصدقاء.

كنت أتحرى للهروب من وطني الصغير للبحث عن مغامرات ربما تكون قد فاتتني أو قد كبرت عليها على أيه حال، لكن الخارج كان مغلف بالارتياب والتردد والنظرات المسروقة والغموض الذي نختاره لأنه يحمينا. لا يسعنا الخروج بنفس الوجه الحقيقي لأنك ستبدو عارياً غريب الأطوار ويرفع عليك أسلحة التجاهل والامتعاض سراً .

لقد كان العمل من المنزل حلماً تحقق من غير تخطيط، كنت ارسمه كشخبطة على الورق و هو الآن يربوا أمامي كنبتة ظل، دائم الاخضرار وان كان بعيداً عن الشمس ولا يتعدى النوافذ ولا يشم رائحة الهواء في الخارج.

“الشعبة الثانية -مجموعة هـ”

ليلة البارحة، كانت ليلة محشوة بالذكريات ومغموسة بسكّر الضحكات، اجتمعت بصديقات الكلية التقيتهم قبل أزمنة عديدة في الوقت الذي كنت فيه هشّة من الداخل ولا أحب ان أرى انعكاسي في المرآة، في الوقت الذي كنت فيه اتهشم من الكلمات الثقيلة والنظرات الطائشة، ومع ذلك كانت لدي قدرة عظيمة على الضحك واطلاق النكات، على اختلاق الأفكار المجنونة التي اطرحها على الطاولة كالكائنات المسحورة، كانت الضحكات تتفرقع من كل الاتجاهات والهتاف المنتشي من السعادة ينبثق من كل الأشياء حولنا..

تحلقنا ليلة البارحة حول سفرة مليئة بالمفرحات وعلب الغازيات الملونة و الشوكلاتات الشقية، كانت المائدة تشع ببهجة العقد الأول من الشباب حيث الأحلام لازلت تشق طريقها من الأرض الطازجة، تركنا القهوة وحلوى الناضجين جانباً واستمتعنا بقرمشة رقائق البطاطا، كانت البطاطا محور الحديث هربنا اليه من الجدية وحدثاً هاماً اجتمعنا على مناقشته وكأنه سيحدث فرقاً في انتهاء الكون وانتهى بنا الأمر بالتنمر على كيس البطاطا الذي صنع من التمر والطحينة ومن تمتلك الشجاعة بتجربته بلا تردد.

لقد اخذتني يد الزمن بحنان ووضعتني في باحة الكلية حيث الأشجار اليافعة والكراسي الحديدية الخضراء وحقائبنا الملقاة على الأرض وعلى جدالنا حول من الذي سيجلب لنا الإفطار هذا اليوم.. وتعلو الأصوات حول الطلبات 1 ساندوتش تونة و2 ببسي ولا تنسين تسخنين الحلّوم..

كنا جميعنا نفس الأشخاص ليلة البارحة وان قدت من جنوبنا كائنات أخرى تشبهنا ولكن الأصل لايزال يحتفظ بسماته نفسها، لقد عادت هنادي من الأمس تضحك حتى يكاد يغشى عليها  ولكن مايحول دون نزول رأسها الى ركبتيها هو بطنها المنتفخ، لازالت بها تلك الصفة الطفولية التي احب تشكو كثيراً وتلوح بيديها بالهواء ولكن وجهها لا يستطيع ان يتجهم وحينما تصل للحد الذي أظن أنه نهاية الشكوى وبداية الصراخ ابتسم لها فتخر صريعة للضحك ويعود الأمر كوميدياً  كما كان ..

هناء من احتضننا بيتها بالأمس، والتي كان اخر عهدي بزيارتها هو اليوم الذي انجبت به ابنتها ديالا، ثم انقطعت بنا سبل اللقاء ولكن الاتصالات الهاتفية  لازالت تجدل حبل الوصال بيننا لم نكن نفترق بالصورة والصوت حتى حينما التقيتها ذبنا في عناق حميمي طويل كانت الشاشات الزجاجية تحرمنا من هذه الاحضان التي تسد ثقوب الروح وتملأ الفراغات بالطمأنينة، ملئت هناء بيتها بالحلوى واعدت العدة والعتاد لينجح هذا اللقاء، بيتها الذي يركض فوق أرضيته 5 أطفال سعداء لم يطمس التعب والارهاق بملامحها تلك النظرة التي أحب، وتلك الابتسامة التي تشعرني  بأن الأمور جميعها على مايرام وان لم تكن كذلك، قتالها في الحفاظ على الوزن وان تكون جميلة دائماً انقذها من تكوم الهموم في خواصرها وعلى قلبها السليم، لم يحدث ان رأيت هناء واجمة حتى في أشد أيامها بؤساً حينما أودعت ابنتها لغرفة العمليات لأن قلبها يحتاج الدعم والمساندة كانت هي تطوف في الممرات البيضاء كالحمامة بحزن مكتوم وصوت يدمدم ادعية متقطعة، لقد كان وجه هناء أول وجه تقع عليه عيني حينما انتقلت لكلية الاقتصاد المنزلي بمكة ، حينما انتقلت من كلية الآداب بجدة  كنت جديدة على صخب المدينة ولم اعتد كل هذه الحدة في الطرقات والمباني فقطعت الطريق الى مكة التمس مكاناً أعرفه وبشر من طينة تشبهني و أألفها سريعاً، فكان لي هذا منذ اول خطوة وضعتها في ذلك المكان الغريب.. بحثت عن قاعتي.. ودخلت بخجل وحينما دارت الاعناق لتراني التصقت بالحائط لأسند ارتباكي فجاءت لي هناء بابتسامتها وسألتني ان كنت جديدة فأومئت لها ومن لحظتها هدأ بي القلب المرتجف وارتخت الأطراف المتوترة وشعرت بأني عدت الى وطني.

هناء اسماعيل، القصة التي تتوالد منها القصص على مر الأزمان، هناء مكتبة بشرية تمد حكايتها في الحوائط وتعقد منها سلاسل الاحداث، هناء التي تنقذنا بقدر ما تغرق وتضمدنا بقدر غائر جراحها، هناء التي توقظ صباحاتنا وهي التي تنام وتصحو تحت وطئة الليل.

وجهها الجميل، وابتسامتها الملائكية تتحدث عما يسكن هذه الفتاة من بياض لم تصبه الصدمات بالسواد. لازالت ناعمة كالثلج ونقيّة كالماء وعطرة كالبنفسج ومحلّقه كنوارس إسطنبول، لقد التقيت هناء كثيراً وجئتها قبل 5سنوات وانا اركض بسعادة مجنونة كالأطفال في صباحات العيد، كان زفافها حدثاً اسطورياً عظيماً وباباً يوصد وراءه انتهاء المأساة بأن تعيش هناء بهناء كما تريد وأن تعلق صورها الملائكية في الحائط ان تطهو بحب الكنافة التي تعشق وتذيب الملح في الحساء الدافئ وتشغل الشموع في بيتِ مطمئن. لقد أتت بالأمس منتقمة من الماضي ومباركة من المستقبل أتت بفستانها البرتقالي لتسكب لنا الحياة في كؤوسنا وتعزف بشعرها الغجري اغنياتنا التي نسيناها على درج المبنى الرابع في الكلية.

لقد أتت ومعها حقيبة ضخمة لتنعش بأدواتها ذاكرتنا التي دفنت بغير قصد بين كثبان الزمان، ذكرتني بالقطة التي بكت عليها في ظهيرة يوم دراسي فوجهت لها سلاح النكات لتختلط الدموع بالضحكات المكتومة وترتبك المشاعر، وتنتصر البهجة اخيراً ونخبئ جزء منها في حقائبنا لنعود بيوتنا ونكمل ما صنعاه صباحاً عبر خطوط الهاتف ليلاً.

لقد نقصت الحلقة فغادر منها من أراد المغادرة وأقفل النوافذ في وجوه أصائص ونسمات الحكايات، اطفئ مصباحاً من مصابيح الحلقة ولكننا احتفظنا بالذكرى والإشراق واعترفنا بأحقية الذهاب وحتمية البقاء

انتهت الزيارة وقبل ان اذهب احتضنتهم في عناق طويـــل تمنيت أن لا انتهي منه، نجحت في استرجاع ملامحي قبل 20 سنة وفرحت لأني لم اتغير كثيراً ولازلت في نظرهم الحكاءة التي تسيل دموع الضحك وتوقد الافران تحت كعكات المغامرات، سعدت لأني استطعت أن اسدل شعري على مشاعري المتورّمة وغطيت ندوب روحي بالمساحيق ولأنني انتصرت على مارد حزني و أودعته قمقمه للأبد، لأن لي حياة جميلة تستحق أن تُعاش!

23-6-1444.

ميلاد سعيد!

31-12- 2022

عيد ميلاد سعيد!

بهذه الجملة ابتدأ صباحي، وعلى الرغم من أني لم أنس أبداً ان اليوم هو ميلادي، ولكني أردت أن أرى هذه الجملة تكتب على شاشة هاتفي. انطلقت البالونات من معرفي في تويتر وغُلفت مكعبات دردشة السناب تشات بشريطة حمراء، هكذا احتفت بي البرامج أهداني الصباح جواً جميلاً نثر لي غيوم بيضاء في السماء، وزفت اليّ النوافذ هواء منعشاً عليلاً رقصت على إثره أجراس الأمنيات المعلقة في صدري.

في الأعوام الماضية كنت أدخل العام الجديد وجيوبي محشّوة بقصاصات عادات جديدة أود اكتسابها وعهود أكبل بها روحي الحُرة وخطط أقيد بها مساري الطليق وبينما كنت أسير نحو العمر القادم أقبض بيدي على بذور كثيرة كي تألفني الأحلام ولا تسافر عني في مواسم الهجرة.

أنا الآن أخطو نحوه متخففة من كل شي، لا أحمل زاداً ولا ماء، آكل ما يضع الله لي من رزق في الأرض وأروي عطشي من ماء السماء، أنصب ظهري بسند الله وأتوكأ على أكتاف عائلتي، عصافيري هم أطفالي، آمالي هي كتبي، وقلمي هو عصاي الذي أهش به على ألمي.

سلاحي هو ثباتي.. أجمل انجازاتي هو أني درّبت قلبي على مواجهة الذئاب، لم أعد أرى أن التودد لها وسيلة لتألفني والتربيت عليها سيحميني من افتراسها لي ليلاً.. تخليت عن الوثوق بها وعن اعلان الحرب. كانت الخطة هي أن أطلق عليها من مسدسي رصاصة التجاهل والنسيان وأدعها تتبخر في الفضاء.

لقد تصالحت مع وجودها في محيطي كفكرة أنها ضرورية لتبنى أسوار التوازن في روحي، كي لا أغرق في برك العطف وأسند ظهري بدعة على أشجار الرخاء فأنسى قوة المقاومة. الأمر الطبيعي في الحياة هو أن يظل هناك شيئاً تخشاه ثم تحاربه فيمزقك ثم ترضخ له فيستحلك، ثم تنهض وتقاوم فيضل يحوم حولك متأهباً الهجوم.

 لقد صددت الذئاب بقوة لامبالاتي لا ألتفت لعوائها وتنتظرني كي أطعمها خوفي ولطالما أطعمتها كي تصمت فبصقتها في وجهي لقد ملت الخوف الصامت و اعتادته فعادت لتطلبها ممزوجة بالذل أو البكاء ولكن اللعبة انتهت الآن.

ما يحدث هو أنها أصبحت تتأملني وأنا غارقة في حب من حولي محاطة باللطف من كل الأشياء، يعوي كبيرها فتهرب الكائنات الجميلة لمكان آمن أكثر وحينما يبتعد القطيع تعود الي بشوق أكبر لتعوضني عن كل الليالي التي بت فيها راضية بالبرد قانعة بالوحدة..هكذا كان الأمر.. بدت كل الأشياء جميلة بالتقبل، وأشرقت في قلبي شموس كثيرة حاسرة كل أشباح الخوف والوحدة بعيداً..

لقد جرحني العام الماضي بأيامه الحادة جروحاً مؤلمة عميقة وبلا أسباب واضحة كانت غائرة حد احتكاكها بالعظم.. لعلها بحثت عن مواطن رواسب الجروح القديمة التي دفنت بدمها وصديدها وعفنها لتفتقها لتخرج جذور الألم منها ثم تركت للأيام مسئولية برئها.. الآن اندملت الجروح وأصبحت أتلمس الندوب بابتسامة ونظرة حانية.

أتمنى لو كان باستطاعة المرء بأن يصنع أياماً طازجة يضعها على نوافذ الأحباب.. لو كان باستطاعتي أن أغزل من الضحكات أوشحة لعائلتي لو كانت لي القدرة أن أضع في جيوب أصدقائي عملات محبة لا تنقص، لو أمكنني أن أمتلك مناعة فولاذية أضم اليها أرواحهم لأحميها من كل داء وأطرد بإصرار لا ينفد كل غربان الحزن وآفات الغم.

تكسرت أعمدة كثيرة وباتت خيمة الحياة من فوقي مائلة ولكني أرى رؤوس أسس بناء جديد على بعد خطوتين مني.. لم أعد اسعى لشيء سوى أن ألمع سراجي ليكون أكثراً سطوعاً من حولي ويحجب ما عداه.. أيقنت ان من الجميل أن أعيش في بقعة ضوئي ولا أرمي بصري للبعيد فتعمى عن محيطي.. أن لا أسمّر نظري للظلام فأترك لوحوش الأوهام فرصة الانقضاض علي..انظر الى السراج لتأنس بالنور وتدفئ به روحي وأرى بوضح جمال ملامح من حولي، أراقب أثر مرور الأيام على وجوههم وأتتبع أثر نموّهم البطيء المستمر السعيد.